للمرة الثالثة خلال عقد من الزمان تقريبا تعيد إسرائيل النظر فيما تسميه عقيدتها الأمنية.
المرة الأولى جاءت فى أعقاب حرب عام 2006 ضد حزب الله فى لبنان. تلك الحرب فرضت تساؤلات مختلفة على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. من ناحية فشلت فى تدمير القدرة العملية عامة، والعسكرية خاصة، لحزب الله. وقد كان الفشل مروعاً فى تأثيره على القيادات. لكن من ناحية أخرى، كانت النتيجة الحقيقية إدراك أن طبيعة الحروب التى ستدخلها إسرائيل قد تغيرت. تشكلت لجان من أفرع مختلفة من الجيش والمخابرات العسكرية وعدد من العقول العاملة فى مراكز بحث ذات شأن، مثل مركز هرتزليا.
وبالرغم من الدراسات المختلفة التى نتجت عن هذه اللجان (وقد وصل بعضها إلى دوائر أوروبية)، كان القول الفصل لهيئة اركان حرب الجيش التى قررت أن التهديد الأهم لإسرائيل هو تغير من حرب شاملة ضد عدة جيوش نظامية عربية فى وقت واحد، إلى جبهات متعددة، أيضاً فى وقت واحد، لكن ضد منظمات عسكرية غير نظامية.
الفرق جوهرى. ذلك أن عقيدة الأمن الاسرائلية كانت منذ قيام الدولة فى 1948، قائمة على معرفة أن النُظم العربية لن تدخل فى حروب مع الدولة العبرية إذا كانت مدركة أن خسائرها فى حالة الهزيمة قد تؤدى إلى زعزعة أركان نظامها الداخلى. ترتب على ذلك أن أصبحت قدرة الردع الاسرائيلية عنصر رئيسى فى العقيدة الأمنية هناك.
حرب 2006 قلبت تلك الفكرة،. ذلك أن حزب الله كان مستعداً لتحمل خسائر مهولة فى بنيته الأساسية من أجل عدم الهزيمة. أى أن استمرارية الحرب دون تحقيق هدف إسرائيل منها أصبح فى حد ذاته انتصارًا لحزب الله، بغض النظر عن الخسائر. إسرائيل كانت أول من يدرك أن الفكرة الدينية القابعة فى قلب كيان حزب الله تربطه مع جماعته فى المجتمع اللبنانى بحيث إن الجماعة قابلة (أو على الأقل غير رافضة علنيا) لما تفرضه عليها المواجهة مع إسرائيل من خسائر. إلا أن هيكل حزب الله غير النظامى، غير المرتبط بهيكل دولة، كان العنصر الرئيسى فى قدرته على احتمال تلك الخسائر، ومن تحقيق النصر السياسى الذى كان.
وعلى ذلك، ترتب سؤالان فى دوائر الفكر الاستراتيجى الإسرائيلى. السؤال الأول كان عما سيكون عليه الوضع إذا جاءت لحظة مستقبلية تكرر فيها سيناريو 2006، لكن ليس فقط على جبهة جنوب لبنان، لكن أيضًا فى غزة مع حماس وفى سوريا مع مجموعات من النوع نفسه. السؤال الثانى كان عن الدروس التى ستأخذها منظمات مثل حماس، من حرب 2006.
المرة الثانية التى أعيد فيها النظر بشكل جاد ومنظم فى عقيدة الأمن الإسرائيلية كانت فى 2014 و2015، عندما خرجت منظمات مثل ما عُرف باسم داعش، عن سيطرة من صنعوها، وبدت وسط الفوضى وقتها فى غرب العراق وشرق سوريا، قادرة على إلحاق أضرار بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ككل.
وقد كان التساؤل وقتها عن درجة الفوضى التى قد تتسرب إلى مناطق فلسطينية تحت السيطرة الإسرائيلية. أى أن نوع الخطر (من الرؤية الإسرائيلية) كان فى توالد عنف متأثر بفكر تكفيرى قد يظهر فى لحظة (أو شكل) انتفاضة فلسطينية، تفرض على الجيش الإسرائيلى نوعاً من المواجهة لم يعهده من قبل فى أماكن شديدة القرب من التجمعات البشرية الكبرى فى إسرائيل.
المراجعة الحالية تطرح أسئلة أكثر. هناك سؤال عن مدى ضرورة تغيير التشكيل الحالى للجيش الإسرائيلى وأسلوب عمله لمواجهة هذا النوع المتغير من مواجهات. هناك سؤال عن إمكانية هذه المنظمات على عمل قفزة نوعية فى مجالات معينة من تكنولوجيات المعلومات تفتح بها جبهة جديدة ومهمة مع إسرائيل – جبهة تقريبا احتكرتها إسرائيل فى المنطقة لعقدين من الزمن حتى الآن. هناك سؤال عن كيف لهذه الأنواع من المواجهات غير النظامية أن تؤثر فى نفسية وأسلوب عمل الجيش الإسرائيلى، وهو قبل وبعد أى شيء مُعد لحروب مع دول.
بالطبع مع كل ذلك هناك السؤالان الأهم فى منظومة الأمن الإسرائيلية: الأول، عن القدرات الصاروخية لحزب الله، وقد تطورت بشكل كبير عن أيام 2006، وخلقت نوعاً جديداً من الردع المتبادل، وهذا وضع جديد تماماً على إسرائيل. والسؤال الثانى عن احتمالية تطوير إيران قدرات أسلحة دمار شامل. وهذا السؤال قد أصبح الآن أكثر إلحاحا بعد أن نجحت إيران فى خلق مركز لها يبدو الآن محصناً داخل سوريا، أى مباشرة على الحدود مع إسرائيل.
مع كل ذلك هناك فى دوائر مهمة فى إسرائيل خوف من أن الفكر الاستراتيجى هناك قد يكون مدرك نقاط تغير كبرى أمامه، ولكنه لا يعمل عليها. وذلك يُذكر بعض المفكرين الإسرائيليين بلحظة أكتوبر 1973، حيث أدركت إسرائيل أن ما تصورته بعيداً قد حدث بأسرع وأبرع مما قّدِرت.
لحظة المراجعة الحالية مهمة لكل مراقبى الشرق الأوسط. ذلك أن تداعياتها سوف تؤثر بشكل مباشر فى المواجهات السياسية المستعرة الآن فى شرق البحر الأبيض المتوسط، والقابلة للتحول إلى مواجهات عسكرية.
- كاتب مصرى مقيم فى لندن