عن الإدارة الأمريكية لملف العلاقات مع روسيا فى التسعينات
يقول النظام الروسى إن «الغرب الجماعى» أو الناتو أو الولايات المتحدة استغلوا لحظات ضعف؛ تسبب فيها الرئيسان جورباتشوف ويلتسين للتمدد العدوانى غربا، وإن هذا التمدد شكل ويشكل تهديدا غير مقبول للأمن القومى الروسي.. ولاقى هذا الكلام أذنا صاغية فى العالم الثالث بكامل أطيافه، فهو يتفق وتجربته الجماعية مع الغرب، ولكن اختبار مدى صحة هذه المقولة يعلمنا الكثير عن مشكلات إدارة السياسة الخارجية.
ولاختبارها قمت وما زلت قائما بإعادة زيارة للتسعينات من القرن الماضي، أقرأ مذكرات الرئيس كلينتون وستروب تالبوت، مستشار الرئيس فى الشأن الروسى ووارين كريستوفر وزير خارجيته، والمقالات المنشورة على موقع فورين أفيرز ومراجع فرنسية حول هذه الحقبة، أحدها جمع شهادات فاعلين من كل الدول، ولم أكن متصورا عندما خضت هذه التجربة كم ستكون مثيرة.
أنبه أولا إلى كونى أننى لم أنته من قراءة الكتب، ولكننى قطعت فيها شوطا كبيرا، وأشيد ثانيا بمذكرات ستروب تالبوت فهو قادر على شرح مدركات وخطط الرئيس الأمريكى أيامها أولا بأول.
ومن ناحية أخرى أشير إلى مقال للدكتور زبيجنيو بريزنسكى مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي، نشر فى عدد مارس 1994 لمجلة فورين أفيرز، انتقد فيها سياسة الرئيس كلينتون، وقال إنها تتأسس على فرضيات شديدة التفاؤل – يقصد السذاجة – فيما يتعلق بحسن النية الروسية وبقدرات روسيا على تبنى نظام ديمقراطى رأسمالى ولا تنتبه بما فيه الكفاية لتكذيب واقع السلوك الروسى والخطاب الروسى لهذه الفرضيات.
من ناحية كلام مستشار كارتر حقيقى وفى محله، وأكد التطور اللاحق للأحداث دقة تحليله، ولكن الأمور أكثر تعقيدا، نعم السياسة الأمريكية تجاه روسيا كانت «حسنة النية» – ليس لأن القائمين عليها من النبلاء الطيبين بل لأسباب أخرى سنحاول بيانها فى هذه المقالات- ولعبت فيها المودة بين الرئيسين كلينتون ويلتسين دورا هاما.
وفعلا قرر الرئيس كلينتون غض النظر عن الخطاب الروسى والممارسات الروسية، ولكن هذا لا يعود إلى غباء يشبه ما رأيناه فى إدارات تالية، بل – فى وصف تقريبى للمشكلة- لغلبة مفهومه لضرورات التعامل مع الأزمات والمخاطر الحالية ومع القنابل القابلة للانفجار فورا على حساب القضايا التى قدر أنها تحتمل التأجيل والقنابل الموقوتة، وعندما ندرك حجم وجسامة هذه المخاطر الحالية نجد أنفسنا متفهمين لسياسات الرئيس كلينتون، تفهما لا يمنع النقد بل يحد من قسوته.
قبل أن أخوض فى تفاصيل مشهد التسعينات وتعقيداته وتحدياته أريد أن أؤكد أمرين.. أولهما أن وجود الحلف فى بولندا وجمهوريات البلطيق والآن فى فنلندا يشكل قيدا وتهديدا لروسيا… هذا حقيقى حتى لو سلمنا أن الحلف دفاعى ولا يفكر فى الهجوم، لأن الانتقال من وضع دفاعى إلى وضع هجومى يتم فى بضعة ساعات، أو فى بضعة أيام، ولأن الحدود الفاصلة بين ما هو دفاعى وما هو هجومى ليست دائما واضحة.. وما يراه طرف دفاع مشروع يراه خصمه هجوما سافرا.
ثانيهما لا يمكن قبول التصورات الروسية عن أمنها القومي، فهى ترى أن الأمن لا يتحقق دون إخضاع كامل لدول وشعوب الجوار، مع مفهوم واسع جدا لمفهوم الجوار، سواء كان الاخضاع مباشرا أم لا، وتحتفظ روسيا – حتى فى تسعينات القرن الماضي- بحق التدخل العسكرى فى دول الجوار لحماية الأقليات الروسية – التى زرعها الاتحاد السوفييتى فى أراضى الشعوب التى ابتليت بحكمه واحتلاله، ومن ناحية أخرى تكفى معرفة سطحية للتاريخ ونظرة سريعة للخريطة وإلمام سطحى بأبجديات الاستراتيجية لفهم أن لا يوجد عاقل يفكر فى الاعتداء على روسيا ويتصور أنه سينجح حيث فشل نابليون وهتلر.. علما بأن روسيا تمتلك ستة آلاف رأس نووية.
فى المقال القادم نخوض فى تفاصيل مشهد التسعينات ونبدأ بالوحدة الألمانية وحرب البوسنة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية