بين التقديس والتأليه (2)
العمل الجامعى والبحث العلمى فى العلوم الإنسانية يعرف طبعًا أن هناك «مقدسًا» يتسع أو يضيق مجاله مع اختلاف المجتمعات ومع تعريف الباحث لماهيته ومضمونه- وهو تعريف قابل للنقد والتعديل. ولكن البحث العلمى لا يتعامل مع المقدس بخشوع وإجلال، ولا يتعامل معه على أساس أنه رباني، بل على أساس أنه ظاهرة إنسانية واجتماعية تحتاج إلى تمحيص وتفسير وتأصيل، وسواء كان الباحث مؤمنًا أو ملحدًا فإن طبيعة عمله تفرض عليه مقاربة نقدية تاريخية يلعب فيها الشك والتشكيك دورًا كبيرًا، وتفرض عليه السعى إلى إقامة علاقات سببية بين الظواهر، دون الاعتراف بأى دور للرب سبحانه وتعالى. طبعًا مناهج البحث وافتراضاتها قابلة للنقد، على سبيل المثال لا الحصر أغلب الباحثين فى الشأن الدينى يتصرفون وكأنهم لا يؤمنون بالمعجزات، وهو رفض مبدئى قطعى لا مبرر حقيقيًّا له. طبعًا هناك نصابون يزعمون أنهم قادرون على صنع معجزات، ولكن وجود النصابين لا يفرض الرفض المبدئى لكل نص يتحدث عن معجزات.
وفى المقابل تميل الثقافات المصرية إلى توسيع دائرة المقدسات والقديسين، وإلى منح هالة من القدسية إلى عدد كبير من رجال الدين ومن المتدينين ومن الناس ومن الأحداث. لستُ بصدد نقاش معتقدات دينية مسلمة أو مسيحية مكتفيًا بالإشارة إلى مركزية روايات المعجزات، حتى فى فترات ليست فترات النبوة وتأسيس الدين، وإلى سعى الكثير من المصريين إلى حياة ترضى الرب وتضعهم فى مصافّ القديسين، لا أناقشها لأننى لست متخصصًا فى الموضوع وإن زاملت من تبحّر فيه فى مرحلة من مراحل مشواري، وأكتفى بالقول إننى لا أعادى هذا الميل ما دام انحصر فى المجال الديني…
ما يهمنى هنا هو تقديس وتأليه وشيطنة الشخصيات السياسية، وتأثير هذا الكارثى على الوعى الجماهيرى والثقافة السياسية وعلى علاقة الحكام بالمحكومين. دعنا نتفق أولًا على أن الحقل السياسى وفنون الحكم تتميز بضرورة توافر خصال معينة فى المنخرطين فى هذا المجال، منها المكر والقدرة على الكذب والقدرة على قراءة دقيقة لموازين القوة، وعدم التردد فى اللجوء إلى العنف مع عدم التوسع فى استخدامه، عندما تحكم بلدًا، عليك فى أحوال ليست بالقليلة إجبار المحكومين على انتهاج سلوك لا يحبونه، وعليك فى أحوال أخرى توظيف عيوب المحكومين للوصول إلى نتيجة ما، وأحيانًا عليك ألا تحارب الظالمين درءًا للفتنة. والأمر أن عليك أحيانًا إصدار أوامر بالقتل حمايةً للصالح العام. باختصار، السياسة ليست للطيبين وليست للقديسين. لا يعنى هذا أنه لا أخلاق فى السياسة، بل يعنى أن أخلاق السياسة تختلف عن أخلاق المتدينين.
لا أريد أن أخوض فى قضية إمكان أو استحالة جمع فرد واحد لأخلاق الحاكم وأخلاق القديس فى المطلق وفى عصرنا الحالي، أكتفى بالقول إن موقف الإسلام وموقف المسيحية مختلفان إلى حد ما من هذه القضية، وأن المتخصصين فى التاريخ يعلمون أن الأغلبية الكاسحة من الحكام لم يكونوا قديسين، وكانت لهم عيوب وسقطات كبيرة. وارتكبوا أخطاء جسيمة، وربما جرائم.
ونرى جمعًا كبيرًا من المؤرخين الغربيين شديدى القسوة على القادة مبالغين فى إدانتهم، وقد تستحق هذه النقطة مقالًا أطول، ولكن المصريين فى المقابل يميلون إلى رفع الزعماء المحبَّبين إلى قلوبهم إلى مصافّ القديسين وإلى التسامح مع الحكام الطيبين القديسين فعلًا، حتى لو تسببوا فى كوارث، ويثورون ويغضبون إنْ تعرّض باحث أو مؤرخ إلى شخص زعيم عليه إجماع واكتشف فيه عيوبًا وفى سيرته أخطاء. وفى المقابل فإن الحاكم المغضوب عليه من مريدى إبليس لا عذر له على الإطلاق. المشكلة فى هذا الوضع أن أغلبنا يتصور أن زعماء الماضى إما ملائكة أو شياطين، وأن الملائكية متاحة فى السياسة، وهذا التصور يؤثر على فهمنا للأمور الماضية والمعاصرة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية