فى الإستراتيجية وفى الصور الذهنية
ترددت بين مواصلة الحديث عن الإستراتيجية والانتقال إلى كلام عن ضرورة وخطر الصور الذهنية أو التصورات الراسخة، وعجزت عن الحسم ولذلك أحاول الجمع بينهما.
لا شك أن نقطة ضعف مصر الرئيسة هى اقتصادها، فمن ناحية حالتها المالية رغم تحسنها تقيد السياسة الخارجية والقدرة على دخول حرب طويلة الأمد، من ناحية أخرى مصر تستورد عناصر رئيسة من غذاء شعبها منها القمح مثلا وبالتالى لا تستطيع أن تغلق موانيها لفترات طويلة، ومن ناحية ثالثة لا تستطيع أن تستثمر ما يكفى لبناء قاعدة علمية صناعية تسمح بدرجة معقولة من الاعتماد على الذات، ومن ناحية رابعة تضطر مصر إلى قبول ظاهرة هجرة العقول ولا تستطيع دفع المرتبات المجزية التى تقنع بالبقاء، وهلم جرا.
وفى الوقت نفسه تتعدد الجبهات وتتسع خطوط المواجهة، عليها تأمين منطقتها الاقتصادية فى شرق المتوسط، وهى منطقة غنية قد يطمع فيها غيرنا أو قد يهددها لمجرد الابتزاز، هناك 1200 كم من الحدود مع ليبيا، وتأمينها يقتضى العمل على استقرار آمن لشرق وجنوب ليبيا، جبهتنا الشرقية مصدر هم كبير، بين ضرورة تأمين وتنمية سيناء ومراقبة كل من إسرائيل وغزة، وعلينا تأمين البحر الأحمر بما فيه باب المندب وخليج عدن وربما جزيرة سقطرى، وعلينا مراقبة تطورات الموقف فى السودان وجنوب السودان وإثيوبيا وإرتريا والصومال والقرن الإفريقى وهى منطقة ستصدر لنا ملايين من المهاجرين إن لم تستقر، وأخيرا وليس آخرا علينا التفكير وتحضير أنفسنا لتبعات الاحتباس الحرارى من ناحية ونقص المياه من ناحية أخرى.
من الطريف إننى أسمع أحيانا من يقول إن الدولة المصرية تجيد التخطيط للمستقبل ولا تعرف كيف تدير الحاضر، وأسمع من يقول العكس، أن التعامل مع الحاضر يتم على حساب المستقبل، كما أن هناك من يقول إن الدولة وهيمنتها على المجتمع تتسبب فى عدم إطلاق الطاقات، وهناك من يرى أنها لا تهيمن بما فيه الكفاية على المجتمع وتتساهل مع الفوضى وقد تتسبب فيها، وطبعا هناك من يرى أن الدولة فاشلة خائبة على كل الأصعدة وتقيد عندما يكون التحرير ضرورة وتحرر عندما يلزم التقييد، وتعليقى الوحيد أننا لا نملك الدراسات التى تسمح بالحسم، وأن الغالب أن الدولة موفقة فى أمور وضعيفة الأداء فى غيرها، وعلينا أن نتذكر أن مصر ليست زورقا بل حاملة طائرات محملة من الصعب التعامل مع دفتها وتغيير وجهتها.
أنتقل إلى موضوع الصورة الذهنية، لم أعد أسافر إلى الخارج كثيرا، ولكننى أفاجأ دائما بكم الجامعيين الأجانب منهم فطاحل الذين يتصورون أن الجيش المصرى هو جيش 67… لم يغير نصر 73 هذا التصور ولا يخطر على بالهم أن صورة عمرها 55 سنة قد لا تعبر عن الواقع الحالى..
تذكرت هذا لأننى فوجئت هذا الشهر بكم الصحفيين الغربيين الذين لا يدركون أن جيش الرئيس بوتين ليس جيش الاتحاد السوفييتى، الأخير كان جيشا ضخم الأعداد يعتمد أساسا على مجندين له مدفعية هائلة ودبابات رهيبة ولكن قدراته التكنولوجية والإلكترونية ضعيفة مقارنة بالغرب ومعنويات جنوده منخفضة… الجيش الروسى الحالى صغير الحجم نسبيا بنيته الأساسية مختلفة %72 من مقاتليه محترفون يجيدون فنون الحرب وهو جيش سريع الحركة ولأغلب قاداته خبرة ميدانية معتبرة. القوات البرية لا تشكل إلا ثلث الجنود ترتفع هذه النسبة إلى %42 إن أدرجنا فى الحساب قوات المظلات. هذا الجيش احتفظ بنقاط قوة سلفه الجيش السوفييتى وطور نفسه فى مجالات عديدة، وإن بقيت فيه نقاط ضعف منها عدم الإلمام بأصول القتال فى المدن.
الصور الذهنية ضرورة لتقييم المعلومات والدلالات وفرزها وإجمالها وتصنيفها والتمييز بين الضرورى وغير الضرورى، بين الدائم والظرفى، ولكنها إن لم تتطور تعمينا.
تابع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية