عندما تطالع تقارير الممارسة الصحفية، التي يصدرها المجلس الأعلى للصحافة شهرياً، لمتابعة الأداء في الصحف والمجلات المصرية، يتسلل إليك على الفور إحساس-إذا كان لديك بعض منه- جارف، بأنك لست صحفياً في بلاط صاحبة الجلالة، جل همه الإبداع والابتكار وملاحقة السبق الصحفي، خدمة للقارئ، أو ممارسة دور تنويرى خدمة للمجتمع، أو كلاهما معاً، وإنما فى أفضل الأحوال، تلميذ بليد في مدرسة الأخلاق الحميدة للبنين أو للبنات- المهم أن تكون غير مختلطة-، يقوم بتقييم أو بمعنى أصح تقويم أدائك، «خوجه» قد تيبس جسده وعقله ومشاعره منذ أمد بعيد.
فالتقرير يعنى في الأساس، بتدوين احصائي، لما يشبه المخالفات، التي تتعلق بالممارسة المهنية في الصحف والمجلات، التي تصدر بتراخيص محلية أو أجنبية، ويطلق على هذه المخالفات في عرف التقرير «الملاحظات»، ويقسم التقرير هذه الملاحظات في منهجية صارمة، يحسده عليها الأكاديميون، إلى مجموعة من الفئات النوعية على النحو التالى:
عدم مراعاة الآداب العامة والذوق العام، عدم احترام الأديان، عدم مراعاة الدقة، الترويج للخرافة والدجل، عدم احترام الخصوصية، عدم مراعاة آداب نشر الإعلان، عدم مراعاة آداب نشر الجريمة، عدم توثيق المعلومات.
ولعل أولى «الملحوظات» على فئات «الملحوظات» الثمانية السابقة، أن ثلاثة منها ترتبط بعدم مراعاة «الأدب» أو «الآداب»، وهى وإن كانت ملحوظة شكلية، إلا أننا نعتقد أنها ذات دلالة هامة، في فهم العقلية القائمة على إعداد وتصميم وتصنيف المخالفات الواردة بالتقرير.
أما الثانية «وهى موضوعية»، فتتمثل فى أن أربعاً فقط من هذه الفئات، تعنى بمعايير تتعلق بصلب الأداء المهنى، وهى عدم مراعاة الدقة وآداب نشر الإعلان وآداب نشر الجريمة واحترام الخصوصية، فى حين تنصب الأربع الأخريات من الناحية العملية على التقييم الأخلاقى للمادة المنشورة، وهو أمر معياري، يتوقف بطبيعة الحال على ثقافة وتوجهات البنى الفكرية، للقائمين على الرصد والتحليل وإبداء الملاحظات!.
ولنأخذ مثالاً من أرض الواقع: تقوم العديد من الصحف الحكومية وغير الحكومية، بنشر مقالات مطولة عن الإعجاز العلمى للقرآن للدكتور زغلول النجار، البعض قد يرى من وجهة نظره، أن هذه المقالات تمثل ترويجاً للخرافة والدجل، أو فى أفضل الأحوال، تجسد صورة من صور عدم احترام الأديان، بإقحامها في غير مجالاتها، وللدكتور مصطفى الفقي على سبيل المثال، رأى معروف فى هذه النوعية من المقالات، مفاده أنها لا تخدم الدين، بل على العكس، لأنها تجعل منه متغيراً تابعاً وليس مستقلاً.
والآن هب أنك واحد من القائمين على تدوين الملاحظات، وأن لديك نسخة من جريدة الأهرام، تحوى مقالين، الأول للدكتور زغلول، والثانى يعبر عن رأي الدكتور الفقى، فهل تدرج مقال زغلول في خانة الترويج للخرافة والدجل، أم ستنحاز له، وتزج بعنوان مقال الفقى، تحت فئة عدم احترام الأديان أو عدم احترام الذوق العام؟.
واضح أن المسألة معيارية، لا علاقة لها بالأخلاق والأدب وقلة الأدب، وإنما بتناطح وتصارع الرؤى والأفكار والاتجاهات، التي تمثل وسائل الإعلام ملعباً شرعياً ومشروعا لها، من وجهة نظرى على الأقل، بل ومن المخجل، أن نتناولها أصلاً في هذا التوقيت، وذلك العصر، من منظور الأدب وقلة الأدب!، وقياساً على ذلك، يمكننا تخيل عشرات الأمثلة، التي تدلل على مدى معيارية العناوين الأخلاقية الفضفاضة، لفئات المخالفات، كعدم مراعاة الذوق العام.. إلى آخره.
أكثر من هذا، فإن فئات الملاحظات الأربع، المتعلقة بتقيم الأداء المهني، لا تخلو هي الأخرى من شوائب. وعلى سبيل المثال، افترض أن رئيس تحرير جريدة الجمهورية، قد اختصته مؤسسة الرئاسة بخبر تعديل وزارى جديد، وقام بنشره على الفور، دون أن يذكر مصدره، هل يجوز أن يدون عنوان هذا الخبر، تحت فئة الملاحظات الخاصة بعدم توثيق المعلومات، تحت زعم أنه يمثل نشر خبر مجهل؟.
أزعم أن هذه القضية قد تم حسمها منذ زمن بعيد، فالصحف تكتسب مصداقيتها بالأساس من تاريخها في الانفراد بنشر الأخبار الصحيحة، وليس بمدى معلومية مصادر الأخبار، صحيح أن نشر اسم مصدر الخبر يقويه ويدعمه، إلا أن العبرة والتقييم فى النهاية، يرتكزان على مدى صحة الأخبار.
والطريف أن وفقاً للمعاير الجامدة للتقرير، فإن خبراً صحيحاً كخبر التعديل الوزاري، ممكن أن يصنف في عداد المخالفات، فى حين أن خبراً آخر غير صحيح قد يوضع أو ينسب زوراً إلى مصدر بعينه، سيضعه كتبة التقرير على الفور فى مصاف الأخبار مكتملة الأركان!.
ومن توثيق المعلومات إلى عدم مراعاة آداب نشر الإعلان يا قلبى لا تحزن!، فقد ضبط تقرير الممارسة الصحفية الخاص بشهر مايو عدداً من المخالفات، فزعت عندما قمت بمراجعتها، إذ تبين لى أنه فيما يتعلق ببعض الموضوعات، أن المشكلة لا تكمن فيها، بقدر ما تتمثل فى عقلية بعض القائمين على الرصد، التي يبدو أنها درجت على التمييز بين الموضوع الإعلانى وغير الإعلانى- كما هو متعارف عليه فى الصحف الحكومية منذ العهود البائدة- بتضمنه «الإْعلاني» اسم واحدة أو أكثر من الشركات!.
فعلى سبيل المثال، اعتبر التقرير خبراً نشرته صحيفة اقتصادية مخالفاً، لأنه يحمل عنوان «نور تستثمر 3 ملايين دولار فى مبادرة الإنترنت الفائق السرعة»، وهو خبر يعلم الصحفى الاقتصادى المبتدئ، مدى أهميته للشركات والمهنيين ورجال الأعمال، الذين يمارسون نشاطهم فى قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
صحيح أن هناك العديد من المخالفات الصحيحة، التي رصدها التقرير فيما يتعلق بخلط الإعلان بالإعلام، إلا أن هناك فى المقابل العشرات من الحالات أيضاً، التي لم يكن يصح ذكرها في خانة الملاحظات الخاصة بتلك الفئة النوعية.
وتبلغ الفانتازيا مداها، مع ما يظهره تقرير مايو وما سبقه من تقارير أيضاً، من أن الصحف الحكومية «القومية»، قد استأثرت بالنصيب الأعظم من الملاحظات بنسبة 41.7% -وذلك رغم تحفظنا على معايير التقييم وعلى إصدار التقرير من الأساس-، وبالرغم من ذلك فإن المجلس الأعلى للصحافة الذي يقوم بإصدار التقرير، والذى تشنف الحكومة آذاننا ليل نهار، بأنه المالك لهذه الصحف، لا يبذل ولو مقدار ذرة من الجهد السلمي أو غير السلمى، تجاه الضغط لإحداث تغيير في إدارة هذه المؤسسات، على الأقل بحكم خروجها عن قواعد الأدب، «من وجهة نظره»!.