أما ولادهم فهم أولاد الحكومة، وأما ولادها فهم أولاد البلد والوطن، وأما ولاده فهم أولاد الغد أو المستقبل.
من الصعب تذكر أسماء رئيس وحكومة السويد أو آيسلندا أو نيوزيلاندا أو الدنمارك أو أستراليا (على سبيل المثال)، ولكن بهذه الدول مجتمعات لها نظام يحكمه، من خلال نُظم ونسق اجتماعى وخطط تنمية وتطوير، تهدف لدعم وتأمين وصيانة وتطوير وسلامة ورفاهية حياة الناس (وليس فقط المواطنين) داخل حدود الدولة، لتكون مهمة الرؤساء والحكومات المتعاقبة هى الاهتمام بتنفيذ هذا النظام أو تطويره لمصلحة الفرد والمجتمع إنسانيا، ولمصلحة مكونات ومرافق المكان جغرافيا، بغض النظر عن شخصية الإدارة المنفذة أو انتمائها الحزبى أو هويتها السياسية.
الفرق الرئيسى بين المجتمعات المستقرة عن المجتمعات التى تعيش ظروفا اجتماعية وسياسية غير مستقرة، هو وجود خطة تنمية اجتماعية، تمكن للدولة أو منظماتها المديرة أن تعتمد على الرؤية الموجودة لديها بالفعل للتنمية الاجتماعية وكذلك على استراتيجيات محددة بدقة، كما هى واردة فى وثائق السياسات واستراتيجيات التنمية الثقافية.. أما فى المجتمعات غير المستقرة فهذه الرؤية منعدمة تقريبا وبالتالى لا يوجد إطار محدد للتغيير الاجتماعى والسياسى، حتى المسؤولون والسياسيون فى هذه المجتمعات يتغيرون بسرعة ويأتى كل واحد بفريقه، حاملا رؤية مختلفة تماما يتفننون معها فى هدم ما قبلهم، وتكون النتيجة تعذر وجود أى آليات أو إجراءات أو سياسات لبناء سيناريوهات تنبؤ مستقبلية بحال أو مستقبل هذه المجتمعات أو تقدمها! لتكون فوضى التغيير العشوائى هى سمة الاستقرار الرئيسى الوحيد فى هذه المجتمعات، والتى قد تمتد فوضاها وفوضويها لتتجاوز حدودها الجغرافية والفكرية لتُعدى كل من يجاورها أو يتاخمها!
من هنا يمكن استيعاب الفرق بين (ولادهم) فى المجتمعات غير المستقرة، وبين (ولادها) أى أولاد الدولة أو الوطن فى المجتمعات المستقرة، «فولادهم» ينتمون إلى شخصيات الإدارة ورؤيتهم ومصالحهم، فى حين «ولادها» رقباء – بقدر الإمكان – على التزام الإدارة بمنظومة التطوير وتنفيذ العقد الاجتماعى بين الحكومة والشعب.
فى الحالتين لا خلاف على (وطنية) أولادهم أو أولادها! كلاهما متعلقان عاطفيا وولائيا بالانتساب لبلد محدد، فيدعمون سلطتها ويحمون مصالحها. نقطة الاختلاف هى أن (أولادهم) يدعمون سلطة ويحمون مصالح من ينتمون لأشخاصهم أو فصيلهم، الذين يبصمون البلد خلال عهدهم بطابعهم ورؤيتهم وفكرهم وثقافتهم. فى حين أن (أولادها) يدعمون سلطة ويحمون مصالح الوعاء ذاته بما يحويه، وليس الطهاة أو وصفات الطعام.
لو عمارة ضخمة فخمة، من ثلاثينيات القرن الماضى، فى حى متميز، تملكها وسكنها مواطنون وأجانب، شركات وأفراد، وكان لها طابع معماري خاص ونظام إداري خاص فى النظافة والصيانة والحراسة والزوار، حتى مواصفات قاطنيها، فيمكننا تصور اختلاف الرؤية تماما بين (ولادهم) الذين يدعمون اتحاد ملاك، يريد جعلها شققا مفروشة ومكاتب إدارية وبوتيكات وكافيهات، تنمى موارد العمارة وتنوع سكانها وتعدد خدماتها وتستقطب القوة الشرائية لقاطنى الشارع او الحى، وبين (ولادها) الذين يحفظون طابعها ونظامها وصيانتها ويدرسون استثمارها على المدى، بما لا يخل بثقافة وجودها وتميز قاطنيها وحفظ أمنهم وخصوصيتهم.
اتحاد ملاك (أولادهم) شخصى، نفعى، مؤقت المصالح، مرتبط بناخبيه، العمارة لهم هيكلا خرسانيا يأوى مصالحهم ومصالح اتحاده، لضمان تجديد انتخابه. أما اتحاد ملاك (أولادها) فلهم رؤية فى استمرار العمارة قادرة على مقاومة الزمن بتطوير وتجديد وتحديث منظومة وجودها ذاته، لاستمرارها مع أجيال قادمة من حقهم أن يعيشوا ويستمتعوا بجغرافيا آمنة وتاريخ صحى.
ومن هنا أيضا، يمكن بلورة أكثر لحروب الجيل الخامس، بالتفجير من الداخل فى العلاقة بين الدولة والمجتمع، فيظهر مفهوم أولادهم وأولادها، فلعقود طويلة حظيت المنطقة (بأولادهم) المخلصين، والمنتمين للذين طبعوا البلاد بطابع المرحلة المُترجم عمليا من الثقافة الى الدين، من الاقتصاد إلى الخط السياسى، من التعليم إلى فكر التطوير، من الحرية الى الأمن، وهكذا. دوما كان (أولادهم) يكسرون البيضة من الخارج لأكل ما بداخلها! فى حين (ولادها) يحاولون كسر البيضة من الداخل لخروج حياة جديدة، تضمن استمرار الحياة.
لا خلاف على حسن نية (ولادهم) وولائهم لأوعيتهم، ولكن القرن الـ 21 يستلزم فطام ولادهم، من محبة وانتماء وذوبانهم فى (اتحادات ملاكهم)، وجعلهم قادرين على استيعاب أهمية البلد كماعون، وعاء، بيضة تخرج حيوات، جديرة بالانتماء لها ذاتيا، لتصح معها صفة الوطنية الصافية، فتكون التضحية لها، التنمية لها، المصالح لها، التقدم والتعاون لها.
مصر تحتاج ولادهم وولادها معا! ولادهم من ميراث طويل مركب ومتشابك من المصالح والمنافع للسيطرة والحماية، وآن الوقت لظهور (ولادها) صافيا، يدعم حربها للبقاء، صراعها للنجاة، كفاحها للتفوق، سباقها للتميز، استماتتها للاستقرار. أولاد مصر فى كل مكان، يعيشون تحت جلد (ولادهم)، ولكن كثيرا ما يكون الفطام صعبا فى بداياته، لأن عواقبه نضج ورجولة وقدرات وإنكار مصالح طبقة أو فصيل، واستمرار ومسؤولية مجردة، تجعل بلدنا جديرة بهم وتستحقهم.
“ولادها” لا يظهرون فجأة او يُنتعلون او يُقطفون، ولكنهم يبزغون فى زمن الرؤية والشفافية وتوحيد الفهم وإعادة اكتشاف النظام وسواسية المسؤلية وإعلام واعٍ وتجديد (خطابها) مع (ولادها).
كنا مع (ولادهم) و(ولادها).. أما (أولاده) فهو الغد والمستقبل، الذى يحتاج نضجا وتمرسا ومسؤولية (ولادها) للخطو بها نحو تحدياته الصارخة، التى لن يستوعبها اتحاد الملاك وحده.. ويحتاج فيها الغد لإنجاب أولاد جدد، بفكر المستقبل، عقلية التحديات، غريزة البقاء بكرامة، روح الإدارة وفريق العمل.
أولاده.. سيقبضون بأحرف من ماس، تنحت قلب البيضة، لتنشق عن عالم جديد، ينتظر الوفاء من الجديرين به.
* محامى وكاتب مصرى