كان من قدر العراق، أكبر بلدان المشرق العربى وأغناها خلال الثمانينيات من القرن العشرين، أن يكون آنئذ فى صدارة المدافعين- بالعرق والدم- عن الأمة العربية فى مواجهة محاولات إيران تصدير ثورتها المذهبية إلى أرجاء المنطقة، ذلك قبل أن يغريه الانتصار العسكرى فى الإقدام على مغامرة غزو دولة الكويت أغسطس 1990، التى أدت إلى تعرض العراق لضربة قاصمة فبراير 1992، ولحصره من ثم تحت طائلة العقوبات الدولية والإقليمية إلا من التصدق عليه بتسويق «النفط مقابل الغذاء»، إيذاناً بالغزو الأميركى لأراضيه أبريل 2003، ليتحرر من الاستبداد المحلى لواحدية حزب البعث منذ 1968، إلا أنه أصبح نهباً للتدخلات الأجنبية الغاشمة، بالمخالفة للقانون الدولى، من جانب كل من الولايات المتحدة وإيران وتركيا، ومن فى معيتهم من الدول التابعة والوكلاء المحليين، تمهيداً لاغتنام الفرصة من خلال شيوع الفوضى والتدمير.. لسرقة سيادة العراق وثروته التى أصبحت موضع تنازع حاد بين جماعاته وأطيافه، لم تفلح الحكومات المتتالية حتى مايو 2020 من إنقاذ البلاد، إذ تجيء على رأس السلطة التنفيذية وزارة «مصطفى الكاظمي» التى استبشر بمقدمها معظم الفرقاء المحليين.. والقوى الخارجية المعنية بالحالة العراقية، كل لأسبابه (…)، وللتساؤل عما إذا كانت حكومته سوف تنجح فى انتشال البلاد من وهدتها التى طالت لنحو نصف قرن، يزيد أو أقل، عبر صراع ممتد بين الدولة (التليدة).. واللا دولة (الفاشلة)، المرتكزتين على تقسيمات فئوية وأحزاب طائفية، وتكوينات تابعة لوصايات إقليمية ودولية، إذ يسفر هذا الصراع الذى لا يبدو متكافئاً، إلا أن يكون الكل خاسرًا، حيث لا يملك أيهم إلا الرضوخ للتعايش أو العدم، ما قد يشجع حكومة «الكاظمي» لتفعيل مؤسسات الدولة العميقة التى طال تغييبها.. لتستظل بها مختلف القوى المجتمعية – المنهكة- بدءًا من إقدام الدولة على احتكار استخدام السلاح دون التقسيمات الخارجة عن سلطات القانون وعن مفهوم الدولة، ما ينهى عهد الدويلات متعددة الولاءات والأهداف داخل (اللا دولة) الخاضعة لوصاية أجنبية.. وإذ تسعى حكومة «الكاظمي» من ثم لإعادة ترتيب علاقاتها بالتفاوض مع دول الجوار (إيران- تركيا) لإيقاف خروقاتها المسلحة أو السياسية فى الشأن العراقى، سواء بالاستناد (لحين تشكيل قوة جوية عراقية) إلى مجهود جوى أميركى، كذلك بتفعيل الدعم العربى من السعودية ومصر بخاصة، لدعم مركزها التفاوضى مع الجارات غير العربيات، الأمر الذى قطع العراق إزاءه أشواطاً إيجابية لا بأس بها مع القاهرة والرياض يوليو 2020، فضلاً عن الاستفادة بالاتحاد الأوروبى بشكل عام فى «حل النزاعات» فى إطار الدور المنوط للتحالف الدولى فى العراق، من واقع التقدير الأوروبى البالغ لموقف «الكاظمي» التوافقى والمتوازن فى علاقاته مع جيرانه والمنطقة والعالم، وبموازاة اتفاق الرئاسات العراقية الثلاث -ربما لأول مرة- على نهج موحد.. يرفض التدخل فى الأوضاع الداخلية، وهو ما سمعه الإيرانيون من «الكاظمي»، أثناء زيارته لطهران مؤخراً عن ضرورة احترامهم للخصوصية العراقية، فيما سوف تركز زيارة الكاظمى لواشنطن من بعد الرياض (بناء مدن صناعية سعودية فى العراق)، على البعد الأمنى، والتسليح ومكافحة الإرهاب. خلاصة القول، أن نجاح السلطة التنفيذية الجديدة فى العراق سوف يستمد زخمه من قناعة القوى الداخلية بإرساء التوازن فيما بينها كضرورة أمنية بديلة عن استمرار نشوب حرب أهلية بين الطوائف المختلفة، الكل فيها خاسر، كما لاستناد العراق على مبدأ التوازن فى علاقاته الخارجية.. والابتعاد عن سياسة المحاور، حفاظاً على سيادته واستقراره، فضلاً عن العمل المشترك مع جميع الأطراف من أجل ترسيخ الاستقرار الداخلى والأمن الإقليمى بسيان، حيث من المقدر عندئذٍ إنجلاء الليل الطويل عن «ليلى المريضة» فى العراق
شريف عطية
6:25 ص, الثلاثاء, 28 يوليو 20
End of current post