بعد عقدين متصلين من حكم اليمين الإسرائيلى، إذ تتناوب الرأى العام كل من قوى اليمين.. وقوى من اليسار ويمين الوسط، فى الانتخابات التشريعية أبريل 2019، حيث عجز تكتل «الليكود» اليمينى عن تشكيل الحكومة ما أدى إلى قيام الكنيست بحل نفسه والدعوة لانتخابات جديدة سبتمبر القادم، كإجراءين غير مسبوقين فى التاريخ السياسى للدولة العبرية، ما يشير إلى مباراة انتخابية مقبلة حامية الوطيس بين قوى اليمين المتشظية من ناحية.. والتنسيق المستحدث مؤخراً من ناحية بين قوى الوسط واليسار من أحزاب العمل- الجنرالات- وما إليهما من أحزاب وشخصيات عسكرية وسياسية تاريخية (إيهود باراك- تسيبى ليفنى.. إلخ)، ذلك وسط مناخ من السجالات الأيديولوجية، وعن مستقبل عملية السلام مع العرب، الأمر الذى لم يسبق اعتراكه بمثل هذه الحدّية، ربما منذ ثلاثينيات القرن الماضى، حين احتد الخلاف والجدل (الدموي) بين المنادين من قبل إعلان الدولة- بالتعايش المشترك مع العرب.. فى مواجهة المطالبين ببناء «مجتمع حرب» (بن جوريون) يفرض السلام من مركز القوة، ذلك فى مقاربة تاريخية أشبه بالخلافات اليهودية المتجذرة- كالجنون المطبق- بتعبير إسحق شامير، واصفاً ما كان من انقسامهم، بينما الرومان يطبقون عليهم فى قلعة «الماسادا» قبل نحو قرنين من الزمان، إذ ليس من المستبعد- مع الفارق- إسقاطها مجددًا- كحالة نفسية، بين البقاء وراء (جيتو) الأسوار العالية- كدولة عنصرية ذات نقاء يهودى أو الاتجاه إلى عكس ذلك من خلال الانفتاح والتعايش مع المحيط السكانى من حولهم، بين سيكوباتية الإبقاء على «مجتمع حرب» أو التطلع لآفاق «السلام الديمقراطي»، بين استمرار التبعية للسياق الإمبريالى أو أن تصبح كدولة طبيعية من دول المنطقة، خاصة وقد ثبت عملياً خلال القرن الماضى.. استحالة غض النظر عن «قومية» المسألة الفلسطينية.. ما لم يتواز مع ذلك التخلى الصهيونى عن التوظيف اللا سامى لمسألة «اليهودى التائه»، إذ عندئذ يمكن توقع تناول عملية السلام من خلال إطار جديد يعيد تشكيل جبهة واسعة النطاق، ومتعددة المسارات، لإقرار مستويات الالتحام وطبيعته بين الجانبين.
إلى ذلك، فمن الحقائق الإسرائيلية الثابتة، أن بناء الدولة لم يكن ليترسخ مداميكها فى العقود الثلاثة التالية لإعلانها، لولا القيادة الفعالة لكل من المؤسسة العسكرية.. ولحزب «الماباي» الذى توسع فيما بعد ليستوعب مدارس فكرية يسارية أخرى فرغتها كل من «الكيبوتسات» و«الهستدروت» قبل تسميته بتكتل «حزب العمل»، إذ أنيط بكلتا المؤسستين مباشرة تعقيدات قضية الحرب 1948 – 1973، قبل أن يطرقا مع مصر وسوريا أبواب عملية السلام ابتداءً من يناير ومايو1974 عبر اتفاقات لفض الاشتباك أدت إلى استرخاء هاتين الجبهتين العربيتين مع إسرائيل، إلى انتهاء حالة الحرب بموجب اتفاقية فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل، سبتمبر 1975، ذلك قبل أن يتجه التفكير السياسى الإسرائيلى إلى محاولة إقصاء مصر عن طبيعة الصراع العربى عسكريًا مع إسرائيل، ليسلم الحكومة عبر انتخابات مايو 1977 إلى حزب الليكود اليمينى- لأول مرة منذ إنشاء الدولة- الذى ما إن أبرم البلدان معاهدة السلام بينهما مارس 1979، إلا وتفرغت حكومة اليمين الإسرائيلى نحو تدمير البرنامج النووى العراقى يونيو 1981، وإلى غزو لبنان وتدمير البنية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية يونيو 1982، وترحيل قيادتها إلى خارج دول الطوق التى خلت تقريباً من أى تهديد واقعى، أو محتمل ضد إسرائيل، (باستثناء «حزب الله» اللبنانى الذى تشكل مطلع الثمانينيات)، إلى انعقاد مؤتمر مدريد للسلام نهاية 1991، فيما الأمن الإسرائيلى فى أفضل أحواله، ولتتخذ الحكومة اليمينية (شامير) خطوات جانبية- خارج السلطة- مفسحة المجال لعودة حزب العمل (رابين- بيريز) لإبرام كل من اتفاق «أوسلو» مع الفلسطينيين.. و«وادى عربة» مع الأردن منتصف التسعينيات، تعرض بعدها رئيس الحكومة- إسحق رابين- للاغتيال على يد متطرف يمينى، ما وضع نهاية دراماتيكية لجهود حزب العمل فى استكمال عملية السلام اتى ابتدأها منتصف السبعينيات، وليحجم «إيهود باراك» رئيس الحكومة عن حزب العمل من بعد عن تفعيل مفاوضاته مع نائب الرئيس السورى «الشرع»، ومع رئيس السلطة الفلسطينية (عرفات) حتى العام 2000، وليعود اليمين (شارون) على رأس الحكومة ليجهض بقسوة مفرطة «انتفاضة الأقصي» قبل حصار «عرفات» وتغييبه فى نوفمبر 2004، وليرحل من بعده كل من «شارون» و«أولمرت»، لأسباب مختلفة، فيما شاعت أجواء عدم الثقة بين نتنياهو- أبومازن خلال العقد الأخير.. وصلت خلاله عملية السلام إلى طريق مسدود ينذر بالخطر.. يفاقمه مؤخراً تعثر آخر المبادرات الأميركية للسلام المسماة «صفقة القرن»، إذ لم يقبلها الفلسطينيون والعرب كما لم تقنع كثيرًا من الإسرائيليين.
إلى ذلك، وفيما يتشرنق الفلسطينيون داخل جدران اليأس، ما يمثل نوعًا من المقاومة السلبية.. التى قد تكون مرشحة للانفجار فى أى وقت لا يكون مناسبًا لطبيعة تطور الأحداث داخل الإقليم أو على المستوى الدولى، وهو أمر ليس غير وارد على إطلاقه بطبيعة الفوضى القائمة، لذلك يتجه عدد من الشخصيات السياسية فى إسرائيل، تحسباً لمخاطر محتملة جراء تشدد اليمين الحاكم، خاصة بعد فشله فى تشكيل الحكومة، ما قد يدعوه فى إطار الانتخابات القادمة فى سبتمبر نحو الرضوخ لشروط بعض من قوى اليمين الأكثر تطرفاً، وحيث تسعى هذه الشخصيات- من خارج اليمين- إلى توفير الطاقات والجهود لمهمة واحدة أساسية حدودها بإسقاط حكم «بنيامين نتنياهو» (2019-2009) لصالح تشكيل حكومة جديدة يرأسها حزب الجنرالات (كحول لفان)، «بينى جانتس»، يتنادون لإعادة إقامة التحالف القديم حول «حزب العمل».. مع توسيع القاعدة التحالفية (..) لخوض انتخابات الكنيست القادمة بهدف تشكيل حكومة وسط ويسار مدعومة من الأحزاب العربية (على الطريقة نفسها التى كانت فى زمن «رابين» 1993)، ولاستقطاب أكبر قدر ممكن من التيارات المعنية بإسرائيل كدولة سلام «ديمقراطية وليبرالية وموحدة»، وفى العمل على محو سياسة التمييز العنصرى ضد الفلسطينيين التى مارستها كل حكومات إسرائيل، من حزبى العمل والليكود، عبر عشرات السنين، إذ ذلك ما يدعو إليه التجمع الجديد فى حال نجاح التنسيق فيما بين شخصياته وأحزابه فى الانتخابات القادمة فى سبتمبر، حيث ينطلق- بحسب زعيم حزب العمل- «نحو بناء شراكة حقيقية مع المجتمع العربى (فلسطينى 1948)، من أجل مستقبلنا جميعاً».. الأمر الذى إن صدقت مراحله التمهيدية فى التنسيق للانتخابات، وفى إدارة مجرياتها، إلى الفوز بها وتشكيل حكومة جديدة من اليسار ووسط اليمين، فيما كان مفقوداً فى الانتخابات السابقة، لأمكن القول باستئناف عملية السلام نحو مسار جديد قد يشكل إن صلحت النوايا، ما قد يعتبر انقلابًا سياسيًا/ أيديولوجيًا فى إسرائيل، من المهم متابعة تطوراته عربياً، للمساهمة فيه إيجابياً لصالح قوى السلام.