جلسته المُحببة لقلبه تحت أغصان شجرة التوت وارفة الظلال ، متكئا على صنعها لنفسه من جريد النخيل ، منغمسًا في قراءة كتاب للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه ، عنوانه “جينالوجيا الأخلاق” ، الذي يطرح من خلاله إشكالية فلسفية، عن أصل الأخلاق و محددات القيم وأصولها التي عرفها الإنسان منذ النشأة الأولى.
أسماه أبوه عادل ، ليس تيمنا بعُمدة القرية عادل ، ولا شيخ الخفر صادق، فلا العُمدة عادل ،ولا لشيخ الخفر نصيبًا من اسمه.
ذات يوم ، أرسل العُمدة أحد لإستدعاء أبا عادل ، وما أن حضر برفقة إبنه ، وجداه وبعض أعيان القرية ووجهائها يأكلون عناقيد العنب، طلب منه أن يبيع له أرضه القريبة من الحيز العمراني ، التي لاتتجاوز مساحتها عشرة قراريط ، بدعوي أنه سيتبرع بها لبناء مدرسة ، علي غير الحقيقة.
الإبن يرفض طلب العُمدة
رفض الإبن طلب العُمدة ، إلا أن الأخير رمق للأب علي أمره بنظرة يغلفها التهديد، وعرض عليه عرضًا آخر، وهو أن يبادله أرضه بأخري بعيدة عن الحيز العمراني ، فجدد عادل رفضه قبل أن تلين إرادة أباه ، خشية أن يؤذيه الحاكم بأمره في قريته ، وهو فقير ينام وأسرته ليلاهم علي بطون نصف خالية لضيق الحال.
إنتفض شيخ الخفر ثائر الرَّأس من مكانه ، موبخًا الإبن، قائلًا ” تأدب، ألا تعرف من أنت ..ومع من تتحدث؟ ، نحن أسياد القرية ووجهائها، وأنت وأباك لاحول لكما ولا قوة”!!!
أجابه عادل ” إذا أتت من وضيع .. ولم ألُمِ المسيءَ فمَنْ ألومُ؟ ، فما بقومي شرفت بل شرفوا بي، وبنفسي ارتفعت لا بجدودي” ، لم يفهم شيخ الخفر ما يقصده الشاب ، إلا أنه إشتد غضبه وأقسم ألاّ يبرحا المكان حتي يبيع أباه أرضه، وكان له ما أقسم عليه.
هرع الأب وإبنه لمركز لنجدتهم من ظُلم العُمدة وبطانته، لكنهما عادا بخُفي حُنين ، بعد أن أدلي شيخ الخفر غير الصادق بشهادته ، وكذا وجهاء القرية والتي كانت شهاداتهم مُنحازة للعُمدة الجائر.
حاشية الجائر
لم يندهش المظلومان ، فحاشية الجائر ما هى إلا مجموعة من الانتهازيين ، ومفسدون وهم يشعرون.
بين عشية وضحاها إختفي مِن حياة عادل ، مَن كان سببًا في حياتِه ، مات الأب كمدًا علي أرضه المسلوبة ، بغير إرادته.
لم يستسلم الشاب للحزن بالقعود يأسًا ، فالاستسلام للحزن لن يزيده إلاّ همًاّ على غمِ ، ولن يُرجع الحُزن مفقود ، بل قد يُفقده موجود ، فأقسم أن يقتص لأبيه ممن ظلموه، ليس بقانون بل بقوة القانون.
حصل علي شهادة الثانوية العامة ، بمجموع عال يؤهله للإلتحاق بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية ، لكنه إختار الحقوق، ورغم إلتحاقه بها ، إلا أن همومه زادت ، وتوحشت هواجسه، فقد أدرك في يومه الأول من الدراسة أن عزيمته تتحدد بنظرة الآخر إليه لا بنظرته لنفسه.
كان فراغ يخيفه ، ويجُسِم له فظاعة العدمية ، فإشتاق للمزيد من التطرف والتشدد في مشاعر الإنتقام ، التي كادت تسيطر عليه، ورغم صعوبة الوداع ، إلا أن طموحه كان أكبر من كل شيئ ، مؤمنًا بأن من صدقت سريرته إنفتحت بصيرته، فخرج من ضيق ذاته إلي فسحة الحقائق.
الإخلاص للحُلم
سنوات الأربع في الحقوق مرت كأنها دهرًا، لكن نبوغه اللافت كان مدادًا للصبر عليها، فكلما أخلص لحلمه ،كان علي يقين بأن الله لن يخذله.
حصل الشاب الطموح علي الليسانس ، بتقدير جيد جدًا، وكان ترتيبه الأول علي دفعته، والفرصة متاحة له أن يُعين معيدًا ليصبح فيما بعد أستاذًا للقانون، لكنه إختار أن يسلك طريقًا آخرا، ليس منه العمل في المحاماة ، للدفاع عن المظلومين، بل أراد أن يكون قاضيًا ليحكم بين الناس بالعدل.
أعلنت فتح باب التقديم لوظيفة معاون نيابة ، – وهي أول درجة وظيفية للعاملين في السلك القضائي- ، فتقدم عادل بأوراقه متضمنة ، شهادة التخرج وقيد الميلاد وصحيفة الحالة الجنائية ، وغيرها من المستندات.
إجتاز الشاب كافة الإختبارات، و مقابلة التفتيش القضائي ، ولم يتبق منها سوي المقابلة التي ستُجري معه عبر اللجنة السباعية ، – التي يسميها البعض كشف الهيئة- ، والتي تحدد لها بعد ثلاثة ايام من إنهاء كافة الإجراءات .
ظن الشاب أن حلمه يتلاشي ، رغم توافر كافة الشروط المؤهلة لشغله تلك الوظيفة ، باستثناء شرط واحد ، هو تأهله إجتماعيًا كونه من أسرة بسيطة ، لكن يقينه بالله ، وشعوره بأنه لكل مجتهدِ نصيب ، كان أكبر من مشاعر اليأس التي تسربت لقلبه.
أجري عادل المقابلة بنجاح، ولأن ظنه كان بالله، فلم يخيب ظنه، وصدر القرار الجمهوري بقائمة المعينين في النيابة العامة، ومن بينهم الشاب الذي أُغتصبت أرضه بقانون القوة.
اليأس من الصبر
مرت عشر من تعيينه، دون أن يتخذ وكيل النائب العام – الذي اصبح ذا نفوذِ – أي خطوة ، لإستعادة ما نُهب منه ، حتي جاءته أمه ذات ليلة ، متسائلة – بعد أن يأست من صبر إبنها – وسبب إستكانته ، وقبوله للأمر الواقع رغم إمتلاك القدرة علي تغييره ؟.
أجابها قائلًا، يا أمي ، لقد أقسمت حينما شغلت الوظيفة ، أن أحافظ علي الدستور وأحترم القانون، وأرعي مصالح الشعب رعاية كاملة، مرددا، بأن أي إستغلال للسلطة التي مُنحت لي ، هو إنحراف عن القانون الذي أقسمت علي احترامه.
سألته، هل ستترك أرضنا؟
أجابها ، القانون كان في صالح العُمدة الجائر ، وشيخ الخفر الانتهازي، لذلك رفعت دعواي لقاضي القضاة ، فهو حسبنا.
إمتعضت الأم ، فرد إبنها لم يُطف نيران قلبها المثشتعلة منذ وفاة أبيه كمدًا ، وكانت دائمة التقريع واللوم لإبنها.
تُرقي عادل حتي اصبح قاضِ ، بمحكمة الجنايات في محافظة مجاورة ، وذات يوم أثناء نظر إحدي القضايا ، فوجئ بأن المتهم فيها إبن عُمدة القرية الذي نهب أرضه وآخرين، وأنهم متهمون بالإتجار في مُخدر الحشيش ، وتم ضبطهم في المحافظة التي يعمل فيها .
العُمدة يلجأ للمستشار متضرعًا
علم العُمدة أن المستشار عادل هو من ينظر قضية إبنه، فلم يجد أمامه مَخرج سوي اللجوء إليه ، ومعه وجهاء القرية ، متضرعًا إليه بأن يحكم بالعدل، مقسمًا أن إبنه لم يقترف جُرمًا، ففوجئ برد القاضى عليه ، أنه سيتنحي عن القضية برمتها حفاظًا على حقوق الأطراف المتخاصمة ،وتحقيق العدالة بكامل جوانبها ، لأنه يخشى أن يغلبه الهوى ويخرج عن حياد العدالة ولو بشكل غير مقصود.
نظرت دائرة أخري غير التي يرأسها المستشار عادل قضية إبن العُمدة الجائر، وحينما ثبت عدم إدانته تم تبرئته.
في مساء حكم البراءة ، جاء العمدة مرة أخري ومعه وجهاء القرية ، وشيخ الخفر وجميع الجالسين أثناء إغتصاب أرض الشاب عادل ، معترفًا بظلمه ، بعد أن أعاد له الأرض المسلوبة جورًا، وقال له ” إقبل إعتذاري، فلقد ظلمتك بسلطتي ولم تظلم إبني بسلطتك رغم قدرتك ، فلتعفو عني وتحكم عليّ بماشئت”.
الله لم يخلق العباد ليعذبهم
إبتسم القاضي العادل وقال له ” الله لم يخلق العباد ليعذبهم، يعفو عن الذنوب التى بينه وبين العباد، أما الحقوق التى بين العباد وبعضهم فلا يعفو عنها إلا إذا عفا صاحب الحق ، والمظلوم عن حقه، وأبي المتوفي كمدًا هو صاحب الحق، فإدعو لله أن يعفو أبي عنك في الدار الآخرة”.
في اليوم التالي تقدم العُمدة وشيخ الخفر بطلب لمديرية الأمن للإعتذار عن إستمرارهما في منصبيهما ، وقضيا باقي حياتهما يردون المظالم خشية عقاب الآخرة ، وعاد المستشار عادل ليقرأ كتابه ” جينالوجيا الأخلاق” لفريدريك نيتشه ، تحت أغصان شجرة التوت.