قرية بعيدة في أقاصي الصعيد، مشيّدة بدفء ، الطريق إليها غير معبَّدة، لكنّها محفوفة بالكرم والعطاء، مساحات أراضيها الخضراء تفصل بين البيوت، لكنها لم تفصل يومًا بين قلوب أصحابها.
بين بنايات القرية المُشيّدة بالطوب اللبِن، وكأنها “لوحة التبادل” للرسام الهولندي “”، أسرة بسيطة كغيرها من الأُسَر، ثلاث بنات وأخوان شقيقان، ضنّ عليهم الزمن بجوده، جُل هدف الأب أن يكون أنموذجًا لأبنائه الخمسة في عمل البر والإحسان، وأم رءوم على من حولها، فقلبها عامر بدفء القرب وأصالة الأجداد.
رسالة الأب
رسالة الأب مساء صباح، كونوا شاكري ، فإذا رأيتم بها خيرًا أعلنوه، وإن رأيتم شرًا استروه، ولا تنسوا أن تكونوا شاكري اليدين، فلا تأخذوا بها ما ليس لكم، ولا تمنعوا حقًا لله هو فيها، وأن يكون أسفل بطنكم طعامًا وأعلاها عِلمًا.
ذات مساء، طرق الباب، ففتح له الأب البشوش، واستقبله وهو يأخذه من يده ويُجلسه في مكان بالقرب من منتصف “المندرة”- مكان المعيشة في القرى- قبل أن يسمع منه سبب زيارته.
بعد أن قدموا له واجب الضيافة، سأله عن سبب الزيارة؟ أجابه، أن إشارة من مركز الشرطة، تلقاها خفير السلاحليك- أو المسئول عن حراسة السلاح في منزل العُمدة- بقائمة تضم أسماءً من شباب القرية ومن بينهم طارق، الابن الأكبر، للتجنيد، وأن العُمدة أناطه بمسئولية جمع هؤلاء والذهاب بهم لمركز التجنيد فورًا.
نظر الأب إلى ساعته التي أشارت إلى السابعة وخمسين دقيقة، وطلب من أن يترك ابنه ساعة واحدة ليشبع من ملامحه قبل أن يغادره، وافق على مضض.
الزمن يحفر أنفاقًا في الوجه
في التاسعة مساءً، انتهى الخفير من جمع المطلوبين للتجنيد، وفي طريقهم لم يتوقف طارق لحظة واحدة عن التفكير في أمه وإخوته والذين كان سندًا لهم، بعد أن مال الزمن على أبيه وحفر في وجهه أنفاقًا بسبب شظف العيش، والأمراض التي انتشرت في جسده النحيل بطبعه.
على مشارف مركز ، كانت هناك مقابر شهداء الجيش والشرطة، والتي انقبض قلب طارق بمجرد رؤيتها، والتي أُحيطت بسور عُلقت عليه لوحة سوداء كبيرة.
أثناء الكشف الطبي، فوجئ بأنه عليل بفيروس سي، أُصيب بالصدمة، ظن أنه سيغادر منطقة التجنيد ليبدأ رحلة علاج على نفقته الخاصة، بين ويلات المستشفيات الحكومية، لكنه فوجئ بالطبيب يُخبر الصول المختص- الصول لفظ يُطلق على صف الضابط برتبة مساعد- بمرافقته لإنهاء إجراءات علاجه والتي ستتكفل القوات المسلحة بتكاليفها كاملة.
الشاب يتعافي وينضم لصفوف زملائه
بعد شهر من رحلة العلاج، تعافى الشاب العشريني تمامًا، وانضم لصفوف زملائه في مركز التدريب، تعلم فيه دروسًا في حمل السلاح، وأخرى في المخاطر التي تحيق بالوطن من أقصاه لأدناه، وأن الشهادة في خِدمة الوطن شرف لا يضاهيه شرف.
بعد أربعين يومًا، وقبل أن يتم توزيعه على إحدى الوحدات بسلاح ، حصل الجندي على إجازة خمسة أيام، مشاعر السعادة لا توصف، أخيرًا سيلتقي أسرته، وسينفذ أول درس تلقاه في فترة تجنيده، وهو الاعتماد على النفس.
بعد عودته من الإجازة، وأثناء خدمته الشنجي- هى أحد أسماء الخدمات التى تبدأ بعد طابور التمام المسائي على مدار الليل لحماية المعسكرات والمنشآت العسكرية- تلقى طارق نبأ استشهاد صديقه بطرس على يد الإرهابيين في سيناء.
الذود عن الوطن
في اليوم التالي، تقدم بطلب لقائد الكتيبة، يرجوه فيه الحصول على الموافقات اللازمة للذهاب لسيناء، ليقتص من قتلة صديقه، والذود عن وطنه، وليكون مثل أقرانه في خط الدفاع الأول.
لم يندهش قائد الكتيبة من طلب الجندي، فالتضحية بالنفس هي مشتهى كل مُقاتِل في صفوف القوات المسلحة.
بعد أسبوع من تقديم الطلب، والذي لم يذق طارق فيه للنوم طعمًا، وكانت صورة صديقه بطرس جليسة وحدته، ونديمة في حضرته، ورفيقة في خدمتِه، أخبره قائد الكتيبة بموافقة القيادة على طلبه، وأخرى بإجازة لمدة ست وتسعين ساعة، ورغم رفض طارق الإجازة فإن قائده أخبره أن هذا أمر وعليه تنفيذه.
عاد الجندي لقريته، لكنه ليس كما كان في إجازته الأولى، ففيها كان شارد الذهن بعد أن أدى واجب العزاء فى صديقه، جلس بعيدًا عن أعين البشر، اغرورقت عيناه، وارتفع مستوى نبضه فيلهث، يُفسح مجالاً لقدميه، فيهوي بين فراغ المجرّات، يستلقي بين النّجوم؛ حيث راحته، فما إن يُغلق عينيه، إلاّ لمح وجه بطرس في وسط هذا الكون.
ودع أسرته، وترك لأبيه وصية يطلب منه ألا يبكي أحد عليه إن لم يأت مرةً أخرى، لأنه سيكون قد ذهب للسماء مع الشهداء والقديسين من أجل مصر.
بعد ليلتين، كُلف بالمشاركة مع زملائه في ملاحقة مجموعة من الإرهابيين، تلقى التكليف بسعادة لم يشعر بها من قبل، أخيرًا سيقتص لصديقه ووطنه.
الجندي الشُجاع
استطاع الجندي الشجاع قنص عدد من الإرهابيين، والكشف عن مخزن كبير به سلاح متطور للغاية ومبالغ مالية ضخمة بعد تتبعه أحد الإرهابيين بمفرده، وأبلغ القيادة وألقى القبض على الجميع.
توعدته قادة التنظيم الإرهابي، وأسقطته شهيدًا للوطن خلال عملية إرهابية استهدفته خصيصًا، لكنه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو مبتسم، أوصى زملاءه أن يقتصوا من هؤلاء الخونة جزاء ما اقترفت أيديهم، مثلما اقتص لصديقه بطرس، مذكرًا إياهم بقوله تعالي “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”.