وُلد عجيًا – أي يتيمًا- تولى أبوه تربيته، ورغم أنه الأصغر بين إخوته الأربعة، فإنه كان أكثرهم فِطنة، وأوفاهم جمالًا، آثره أبوه علي أشقائه، بل علي نفسه، عسى أن يعوضه جزءًا من الحنان الذي فقده بعد موت أمه قبل أن يُكمل عامه الأول.
رغم أن فريد، وُلد في الِنعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها، فإن هذه الحال تبدلت قبل أن يكمل عامه السادس، منذ فقد أبوه وظيفته، بعد أن وشى به زملاؤه زورًا لدي صاحب العمل، وتبدلت حياته من الستر للعوز.
الأب يعمل كلافًا
اضطر الأب للعمل كلافًا- أي يقوم بتربية الماشية- عند عُمدة القرية، الذي كانت له ابنةٌ فاشًلةٌ في التعليم، وابنّ ذائع الصيت، ليس بفطنته كفريد، بل وقسوته متكئًا علي سطوة أبيه ونفوذه.
كان الطفل حديث القرية، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، لقدرته علي مقارعة الجالسين الحًجة بالُحجة رغم فوارق السن.
الطفل النابه كان يطمح أن يكون طبيبًا
أنهى تعليمه الأساسي بنبوغِ بات معتادا لأترابه، قدم أوراقه للالتحاق بالمدرسة الثانوية، في المدينة التي تبعد عن القرية بعشرات الكيلو مترات، كان يطمح أن يكون طبيبًا، ليعالج أهالي القرية الذين ضربهم السرطان أو المرض الوِحش- كما يطلقون عليه- وكانت والدته إحدى ضحاياه.
أتم دراسته الثانوية، بنجاح منقطع النظير، بعد أن حصل على الذي سيؤهله للالتحاق بكلية الطب، كادت الغِبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير، لأنه بات زينة قريته، بل المدينة كلها التي ذاع صيته فيها.
في العام الثاني من دراسته الطب، أُعجب بزميلته، التي بادلته المشاعر نفسها، بعد أن صارحها، واتفقا علي الزواج فور تخرجهما بعد خمس سنوات.
مرت الأيام، يومًا تلو الأخر، عمل مساعدًا لطبيب مشهور، لتدبير نفقات دراسته، دون أن يتمرد علي هذه الحياة، بل كان يغزل ثوبًا من الأحلام مطرزًا بطموح الكادحين في مستقبل أفضل.
الأب مكبلًا بالأصفاد بسبب البقرة
ذات يوم، فوجئ بإخوته عابثي الوجه، شعر حينها أن فجيعة ألمت بوالدهم، سأل عنه، لم يجبه أحد، فلما ألح في طلبه، صارحوه بأن ابن القرية، اتهم أباهم بسرقة “بقرة” وبيعها في سوق المواشي، وأنه تم اقتياده لمركز الشرطة مكبلًا بالأصفاد للتحقيق معه.
سارع الشاب متجهًا لأبيه، وما إن رأه خلف القضبان، ذرف كلاهما الدمع حُزنًا، وقبل أن ينطق الأب دفاعًا عن نفسه، عاجله فريد طالبًا منه الصمت، متيقنا من براءته، فالقلب الذي تحمل فراق الزوجة، وتربية أربعة أبناء علي الفضيلة، رغم الظروف التي تئن الجِبال من حَملها، لا يمكنه ارتكاب جريمة مُخلة بالشرف.
في المساء، فوجئ طالب الطب بأحد الخفراء، يطلب منه الحضور لدوار العُمدة، سأله عن السبب، فأجابه بأن حضوره سينقذ والده من السجن، ويُطهر ثوب الفضيلة الذي يرتديه صدقًا.
ذهب الشاب في الموعد المحدد، فوجد أعيان القرية ووجهاءها متكئين علي أرائك- جمع أريكة – من الخشب، طلب العُمدة الاختلاء بفريد في الغرفة المجاورة، وما إن جلسا معًا، فوجئ بمساومته، إما أن يتزوج ابنته مقابل التنازل عن محضر السرقة، وإما ترك الأب الضحية لمصيره المُظلم.
الشاب بين خيارين كلاهما مُر
وجد الشاب نفسه أمام خيارين، كلاهما مُر، إما قبول النار التي عرضها عليه العُمدة، وإنقاذ أبيه الذي آثره على نفسه في الصِغر، مقابل التنازل عن حُبه لزميلته، ومعها أحلامه التي بناهًا في مدينته الأفلاطونية، وإما رفض العرض وترك أبيه وحيدًا يفرد شراع الزمن، فتطبق أطرافه الثقيلة علي أنفاسه، وتُجهض روحه.
لم يكن فريد براجماتيًا، أو نفعيًا، فاختار أن يضحي بنفسه ويرتبط بمن لا يحبها، لتبرئة أبيه الذي يحبه، ولكنه اشترط إنهاء دراسته قبل إتمام الزفاف، ووافق العُمدة علي طلبه، وتم نسج رواية كاذبة لإخلاء سبيل الأب من مركز الشرطة، وهي ضياع البقرة من الزريبة، وظنهم أن الكلاف سرقها، وانه تم العثور عليها في إحدي الزروع المجاورة للقرية.
نهاية حزينة
في اليوم التالي، ذهب لكليته، لكنه لم يكن فريد الذي عرفه القاصي والداني، فالشاب الذي كان يحلم بمستقبل يفتح ذراعيه ليحتضن أحلامه وطموحاته، لم يمهله الظُلم والواقع المشوه ، لحظة أملِ يعيش على ذكراها، ليصير شِبه إنسان، قبل أن يسقط بين أترابه في المُدرج، مغشيًا عليه، ووفاته في الحال بهبوط حاد في الدورة الدموية، بسبب حالة الاكتئاب التي ألمت به.