تتوقف علاقات مصر الدولية والإقليمية، بما فيها من تعقيدات متنوعة.. تختلف ما بين دولة وأخرى، على ما يجمع رؤى الدول الكبرى -المتصارعة فيما بينها- بشأن الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط.. التى تشهد بدورها سباقات ضارية بين قومياتها الرئيسية، العربية- الفارسية – الطورانية والعبرانية، لمن يكون له من بينهم إحراز قصب السبق للتفوق الإقليمى، يحقق من خلاله بمركز دولي متميز، والعكس صحيح، ما يستوجب على مصر وهى تسلك طريقها المتجدد على الصُّعد الداخلية والعربية، ومع الخارج، المتابعة الواعية لما يجري على الساحة الدولية من متغيرات بين القوى الكبرى؛ ليس فقط لتأمين العلاقات معهم بقدر استطلاعها سبل المساهمة فى بناء النظام الدولى قيد التشكيل، ما قد يعود إيجابًا على مركزها الوطني والإقليمي، المرتبط شأنه حقيقة بالتطورات العالمية.. سواء ما بين انحسار النفوذ الغربي الذى دامت سيطرته على المسيرة الدولية لقرنين من الزمان، ولصالح آسيا المجمع على تعريف القرن 21بها، أو ما بين صعود الصين فى العقود الأخيرة لمصافّ القوى الكبرى، إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبى، أو بمختلف تكتلاتهم القديمة أو الناشئة فى مختلف أقاليم العالم.
إلى ذلك، تبدو “الأحادية الأميركية” على رأس النظام الدولي منذ مطلع التسعينيات.. وكأنها حائرة فى طريقها نحو التراجع، من بعد افتقادها التركيز الإستراتيجي عقب غزوها العقيم لكل من أفغانستان 2001، والعراق فى 2003، ما أصاب هيبتها العسكرية (ومن بعد انسحابها من فيتنام 1972)، فى الصميم، ناهيك عما يعتري أوضاعها الداخلية من اضطرابات غير مسبوقة.. على النحو المشهود 2017 – 2021ذلك فيما عبرت روسيا (من بعد تفكك إمبراطوريتها السوفيتية 1992) سنوات المهانة القومية طوال التسعينيات، قبل أن تستجمع قواها مع مطلع القرن الجديد- تحت قيادة “بوتين”- لتعود من بعد مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبى 2006 إلى مناطحة أميركا وجهًا لوجه، بالتوازي مع دعم أواصر التعاون بالصين الصاعدة إلى أقوى ثاني اقتصادات العالم بعد الولايات المتحدة، التى دخلت بدورها فى مواجهة إستراتيجية مع الصين، ذلك فى الوقت الذى يتناوب فيه الاتحاد الأوروبي اتجاهان.. منذ وحدته السياسية مطلع التسعينيات، ما بين التطلع لمزيد من التضامن.. وبين الخشية من التفكك، فيما تحوط علاقاته مع كل من واشنطن وموسكو وبكين حالات من اللااستقرار، وفقًا لمصالح متباينة بين العواصم الكبرى، يفاقمها حالة سيولة مزمنة يتصف بها النظام الدولى القائم، تقف إزاءه الدول الدائرة فى فلكه- ومنها مصر بالضرورة- مشدودة بين أطرافه الرئيسية فى توازنٍ يصعب تأكيده نظرًا لمتغيراته الإمبريالية المتسارعة، لا تكاد لإحداها أن تتقدم خطوة إلا وتتراجع إزاء القوة الإمبريالية الأخرى خطوتين .
على صعيد مواز، ورغم التقارب القيمي (اللاليبرالي) بين روسيا والصين، وتشارك جيشيهما للدخول مرارًا فى تدريبات مشتركة، ربما كرفيقين على الورق فحسب، إذ يتساجلون من الناحية العملية.. على غرار تسابقهما فى الستينيات من القرن الماضى للوصول إلى “المرحلة الرومانسية للاشتراكية”، فيما يتنافسان اليوم، كدولتين منفتحتين على آليات السوق الحرة، كما نحو تجنيب الصين مضاعفة مخزونها النووي لئلا تلحق بما يجعلها فى نطاق القوتين النوويتين العظميين، روسيا والولايات المتحدة، واللتين لا تمانعان في التقارب للعمل معًا لمواجهة الصين فى هذا الشأن، لربما تعاود واشنطن من خلالها الوقيعة بين موسكو وبكين، على غرار الشرخ الذى أحدثته بينهما 1972، وكان نقطة تحول وقتئذ فى مسار الحرب الباردة، ناهيك عن الصراع الدولى القائم اليوم فى إطار التنافس بين المجتمعات المفتوحة والمغلقة، إذ تمتنع الصين على سبيل المثال عن الدخول إلى جانب روسيا فى أزمة شبه جزيرة القرم، نائية بنفسها عن الصراع الأميركي- الروسى بشأنها، وبالقدر نفسه تعزف روسيا عن الانغماس فى أزمة بحر الصين الجنوبى، كما تجنبت، ولا تزال، الصراع الناشب حول “تايوان”، ذلك فيما تقيم الصين من ناحية أخرى علاقات اقتصادية وتكنولوجية متقدمة مع إسرائيل؛ حليفة أميركا اللصيقة، ما يثير قلق واشنطن من خلال تحذيرها الدولة العبرية لتقليص هذا التعاون، فيما لا ترعوي الصين عن الوقوف إلى جانب موقف أثيوبيا من “سد النهضة”، رغم العلاقات التاريخية مع مصر التى كانت من أوائل الدول التى اعترفت بالصين الشعبية 1954، الأمر الذى لم يحل دون استعراض الصين طموحاتها الجيوسياسية، كما أعرب عنها الرئيس الصينى يونيو 2017 بالقول “يجب على الصين أن تمثل صدارة العالم”.
الأمر الذى بلغ بالصعود الصينى اليوم إلى درجة أصبح يشكل عندها تحديًا مباشرًا للزعامة الأميركية على مستوى العالم، ذلك فى غياب مؤشرات فى الأفق توحي بإمكانية لجم القوة الصينية، إذ دون ذلك صعوبات كبيرة، ما يدفع- للمفارقة- مستشار الأمن القومى الأميركى يونيو الماضى لتأكيد رغبة بلاده “التواصل” مع الصين، ما يجعل من ذلك الشغف الأميركي- بنظر المراقبين- هدفًا سهلًا للنظام الصيني، لولا أن “البنتاجون”- ever so- يتوجه على صعيد آخر لبدء تنفيذ التوصيات الصادرة عنه فى فبراير الماضى للرد على التحديات الأمنية الصينية، باعتبارها التحدي الإستراتيجي الأول للولايات المتحدة.
إلى سياق ما سبق، وبموازاته، تسعى الولايات المتحدة إلى توقيع “ميثاق أطلسي” جديد مع بريطانيا.. التى استضافت فى يونيو الماضى قمة مجموعة السبع بهدف البحث ضمنًا فى التصدى للهيمنة الصينية، وفى الرد على توسع بكين عالميًّا من خلال مشروع “الحزام والطريق”، كما إلى مناقشة استمرار غياب القدرة الأميركية- الأوروبية عن تشكيل وحدة عالمية- كما هو معتاد- ما سوف تغتنمه الصين (وروسيا) كفرصة دولية لوضعهما قواعد جديدة تتفق مع رؤيتهما (وآخرين) للحوكمة العالمية، بالتزامن مع نظام دولى جديد على وشك التشكل، ربما إلى أبعد من النظام الذى تقوده حاليًّا الولايات المتحدة، ولصالح صورة بديلة مرجحة لنظام عالمي صيني، مع ما سوف يتحالف معها من دول مجموعتي “بريكس” و”منظمة شنغنهاى للتعاون”، إلى جانب إيران وبعض الدول الأوروبية والأفريقية، ذلك بعدما أدرك الجميع- بحسب مراقبين- عدم وجود دولة قوية بما يكفى لأن تقدم وحدها نموذجا حاليًّا لقيادة الأزمات على المستوى العالمى، ذلك فيما يرون- المراقبون- أن النظام الدولى يمضى نحو عصر ما بعد الغرب، وعن محوره الإستراتيجي إبان الحرب الباردة فى النصف الثانى من القرن العشرين، إذ سوف يتحول- بحسبهم- من أوروبا إلى آسيا، وبالتحديد صوب محور المحيطين الهندى والهادىASIAN PIVOT ، حيث تعكف الصين من داخل مجالها الحيوى للعمل- وبمواجهة مع أميركا- عند أهم مناطق العالم اقتصاديًّا وإستراتيجيًّا فى القرن21 .. بهدف صياغة قواعد نظام دولي، قد لا يتاح لأيهما احتكارها، ما يعطي فرصة تاريخية لشعوب الشرق الأوسط على سبيل المثال للتطلع إلى حكوماتهم الوطنية من أجل حمايتهم.. فى ظل انسداد طرق غير سالكة تماما أمام القوى الكبرى الراغبة فى التوسع بالمنطقة، ما سوف ينعكس من ناحية على نشوء توازنات جديدة تَحول دون انسحاق البعض فى السياسة الأميركية التى تتعرض- وفقًا لهنرى كيسنجر مؤخرًا- لحالة خواء إستراتيجى ملحوظ، كما سوف تنعكس من ناحية أخرى على علاقات ندّية للبعض مع روسيا من خلال اتفاقات عسكرية وتقنية وسياسية.. فضلًا عن مشاركتها عند تناول قضايا إقليمية يمكن لموسكو القيام بدور هام للوساطة بين أطرافها نحو التسوية، حيث يفاخر الكرملين بحيازة أوراقها (فلسطين -لبنان- سوريا- ليبيا.. إلخ)، لكن دون تحقيقه مكاسب كبرى حتى الآن، ما لم تتصل جهوده مع بروكسيل، والمتوقفة بينهما، على خلفية الوضع فى أوكرانيا، وللتحركات العسكرية النشطة على طول الحدود الروسية- الأوروبية، ذلك فيما الصين عازفة عن دبلوماسيتها المتريثة الهادئة لتخترق الشرق الأوسط عبر اتفاقية إستراتيجية مع إيران لمدة عشرين عامًا، وفى منطقة تقليدية كانت مقتصرة فحسب، ولا تزال، على كل من واشنطن وموسكو منذ الحرب العالمية الثانية.
قصارى القول، سيظل الشرق الأوسط، ومصر فى مركز الدائرة منه، على حالته من عدم اليقين بين وحداته السياسية المختلفة، ما دام النظام الدولى على حالته المزمنة من السيولة، وما بين عدم اليقين الإقليمي.. والسيولة الدولية، ليس من سبيل لأقاليم المعمورة غير الانتظار لما قد يتخلق عن فوضى النظام العالمي.