ماذا لو تساهلنا؟

ماذا لو تساهلنا؟
محمد بكري

محمد بكري

6:39 ص, الأثنين, 19 أكتوبر 20

ابتسم صديقى بتحفظ وقال (كثيرًا ما تكون الجرعة الثقافية والفكرية المُركزة فى مقالات الصحف هذه الأيام، سبباً فى تقليص شريحة القراء! ألا يُفضل التخفيف والكتابة على ايقاعات جوجل ترند مثلا، بأسلوب بسيط يصل لعامة القراء وليس الخواص؟ الناس مرهقة فكريا وماليا ونفسيا، تحتاج للتخفيف والتبسيط، لا التعمق أو التفكير الجاد).

ابتسمت بدورى وقلت (رأيك فى محله ولكن أجبنى أولا.. لماذا نكتب، وليس لمن نكتب؟ لماذا نكتب، سؤال جاد يكشف لك رؤية الكاتب لرسالته، فإما يكون ناقلا أو مبدعا. النقل متاح للجميع بدرجات مختلفة، أما الإبداع فمحوره الفكر الأصيل الهادف، وتحفظك على الاسلوب وليس سبب الكتابة. أما أهداف الكتابة فتتعدد، بين تسلية القراء أو تقديم معلومات أو بناء الفكر، والأخير يتسم بالجدية والعمق، بغض النظر عن ظروف القراء، فغرضه النهائى التغريد خارج السرب، لتحفيز تفكير يدعم بناء الفكر، أساس تطور العقل. أما تفضيلك، فله اهله بدرجات متفاوتة).

تراجع صديقى فى مقعده وقال (لا أختلف معك على اهمية بناء الفكر بل وخطورته فى العموم، ولكنى أناقش لمن تكتب؟ من مآسى بعض الأدباء والمفكرين ألا يكونوا مقرؤين! فما قيمة عسل لا يُشترى؟ أو كما قيل.. لم تقول ما لا يُفهم؟ المشكلة الصراع بين الشكل والمضمون أو الفكرة والأسلوب، لأعود وأركز على أن تحديد قراء الكاتب، تحجيم لوصول فكره ورسالته).

تفهمت تعقيبه وعلقت (بداية؛ أكمل قول لم تقول ما لا يُفهم!.. لأن الرد، ولم لا تفهم ما يقال؟

الفكرة دوما كيفية التعبير وتوصيل الرأى للمتلقى. إن ترك توجيه الفكر والكلمة والرأى لمفهوم الترند أو مؤشرات البحث فى بعض المجالات، قد يورطنا فى سياسة «الجمهور عاوز كده»! وما تجره من تدهور تدريجى فى الذوق والسلوك وطرق التعامل، لنصل إلى حالة من مسخ الفن والفكر والأسلوب، كنتيجة «لفن التلاعب بالترند».

بل إن التعامل مع بعض الترند الخطر أو الجاد، باسلوب تعليقى سطحى تسهيلا لفهم العامة، قد ينتج عدم استيعابهم لخطورة الموقف والاستخفاف به. هنا أهمية الاستمرار فى تقديم جرعات فكرية أو ثقافية بأسلوب مُركز من وقت لآخر، حتى لا يفقد الناس الصلة بالاصول والأساس ويتاح لهم فرصة المقارنة بين الطريقين. الأسلوب الذى تفضله صديقى، قد يُضعف المعنى ويُطعم العامة مزيدا من السطحية، بما يصعب استفاقة التفكير وسلامة الفكر. ومن ثم لا تلوم تفشى الغوغائية والبلطجة الفكرية والسلوكية واللفظية).

ابتسم صديقى مرة اخرى وقال (وجهة نظر؛ ولكن لا تُهمل أن الظروف العامة لا تمنح رفاهية التأمل والتفكر والتدبر! لا أنكر أننا نمر بوعى وثقافة القطيع، ولكنه واقعا فرض نفسه، وأصبح له رواد وفرسان ومدافعون. ما أتحفظ عليه الفذلكة الفكرية أو التعقيد اللغوى، فى زمن جبرنا على التيك توك وأغانى المهرجانات والتسويق الإلكترونى وانهيار دول بزييها. الموضوع لا يحتاج لمزيد من التعقيد والتعالى الفكرى. يتناسى الناس زمن ذوى الياقات البيضاء وأصحاب السيجار والمنتديات الفكرية.. فالدنيا قد يهزها تويتة أو بوست أو صورة إنستجرام! صناعة الخبر والمقال والكتاب اختلفت، وبرزت أنواع جديدة تخاطب محدودى الثقافة والوقت والفقر، حتى الكوميديا السوداء، انتهت تقريبًا ودخلنا حلبة القوة والاستعراض والتبجح. لذلك فتحفظى مستمر على تصعيب السهل وطرح ومناقشة افكار غير مطلوبة على الساحة حاليا، لأن تهمة الشذوذ الفكرى قد تطال أصحاب الفكر أو الرأى، الذى لا يواكب الترند أو العامة)

أخذتنى برهة للرد، وقلت (كلام واقعى جدا لا اختلف عليه ولا أتفق معه أيضا!

التسليم برأيك كمن يدعو أصحاب الرأى والفكر للتقوقع والمراقبة وتحين الفرصة، لعل العامة تستفيق وتطالب بالجودة والاصول، فيتقدموا بأنوارهم وأفكارهم. غير أن ذلك الحين لن يأتى أبدا، ما لم يستمر الفكر الجاد يطرق الأدمغة ويبرق أمام عيونها، لعلها تلتقط معلومة أو فكرة أو طريقة تستفيد بها.

أعرف العديد من المهنيين المنغمسين بعمل العامة، ولكنهم يحرصون على ترصيع عملائهم ببعض الجادين ذوى الحيثية، للحفاظ على مستواهم فلا ينجرفوا لسطحية العامة.

استشهادك بزمن القوة والاستعراض والتبجح، أدعى للتصدى له دوريا بالفكر الحقيقى وطرح الرؤى التى تجعل القراء يتاح لهم فرصة الأفاقة، إعادة التفكير، والمقارنة. خلاف ذلك فالمستقبل سيكون حرجًا جدا، ليقع بين أيدى الأفاقين والسطحيين وملوك الزمن الذى تتعلل به).

تنبه صديقى لمقصدى وعقب (اتفق معك فى الصورة العامة والتخوف من مصير التساهل مع السطحية، ولا أتعلل بأن ضعف أو فساد الجارى سبب لاستبعاد أو تقوقع الجدية والعمق. ولكنى أنبه فقط لواقع، اعتباره أفضل من تجاهله)، فختمت حديثى قائلا (لولا اعتبارى لواقعك، لما صممت على التغريد خارج السرب، لعل طيوراً وافراخاً أخرى تُحلق لإنقاذ نفسها يوما ما.

فرق كبير جدا ـ بين ـ ذوى الياقات البيضاء ونُقاد اللقطة ومحترفى الصور ـ وبين ـ متوهجى الرأى ودعوات التدبر وربط الأمور، لانتزاع همّ العامة للتطفل على محاولات إنقاذهم!

فالفذلكة الفكرية واللغوية تُكتشف سريعا وعمرها قصير، لأن بناء الفكر الحقيقى له دليل واحد.. هو قيمته المضافة، المؤثرة إيجابا فى فكر وأسلوب ومواقف القارئ.

غير ذلك، ينضم التساهل إلى زمنك.. الذى أتمنى ألا يطول أكثر من ذلك).

* محامى وكاتب مصرى