شباك مفتوح
لم أستغرب أن يكون الإنتاج العربى الأهم لشركة نيتفليكس العالمية مستوحى من سلسلة ما وراء الطبيعة للراحل أحمد خالد توفيق.. ذكاء الاختيار هنا نابع، ليس من قيمة القصص، ولكن من نجاح أحمد خالد توفيق فى نسج شخصية نادرة فى الأدب العربى، وصلت إلى وجدان ملايين من القراء: العجوز رفعت إسماعيل، الشخصية المحورية فى تلك السلسلة.
تلك العلاقة وليس أى شىء آخر كانت أساس نجاح السلسلة. القصص كانت مشوقة وتحتوى على معلومات كثيرة، وكانت تأخذ القراء إلى عوالم مختلفة وغريبة. لكن القراء كانوا بالدرجة الأولى فى انتظار الالتفاف حول الرجل العجوز الجالس خلف مكتبه وبراد الشاى بجانبه ليحكى ويقص ويشرح.. والقيمة فى الاستماع له بقدر ما هى فى الغوص فيما سيحكيه.
ذلك العجوز رفعت إسماعيل مَثَل archetype كما يُقال فى علم النفس (أو نموذج عام) للرجل كبير السن الذى ذهب بعيداً وواسعاً، رأى الكثير، وشارك وتعامل مع الكثير ولم يكتف فحسب بالمشاهدة.. والذى عرف، وبعد أن عرف وفهم، عاد إلى من حيث بدأ، لا يريد ممن حوله إلا أن يتركوه فى حاله ولا يزعجوه.. إلا هؤلاء الذين يريدون أن يستمعوا وان يبدءوا طريقهم هم نحو المعرفة، وربما الفهم.
هناك archetype آخر فى رفعت إسماعيل.. هو البطل العادى الذى يفتقر إلى كل المقومات الشهيرة للبطولة. فلا هو مدعى ذكاء خارق ولا شجاعة ولا نجاحات كبرى ولا وسامة أخّاذة ولا هو ناظر لنفسه على أنه قيمة خاصة ومثال يُحتذى. على العكس.. الرجل يرى أنه عادى، بلا مواهب خاصة وقدرات فائقة.. وفى ذلك روعة نجاحه.. ذلك أن الشخصية هنا للرجل العادى الذى يصير بإصراره وبقوة إرادته، بطلاً.
مفهوم البطولة نفسه مختلف هنا، وجزء من العلاقة الخاصة التى أنجحت شخصية ذلك العجوز الهادئ. البطولة هنا هى الكون فى مركز الأحداث، وليس الخوف والانزواء والابتعاد.. البطولة هنا هى فى خوض التجارب، الواحدة تلو الآخرى، والهدف هو اكتساب المعرفة ومحاولة الفهم.
نقطة مهمة ركز عليها أحمد خالد توفيق فى نحته لشخصية رفعت إسماعيل كانت، عدم الادعاء. على عكس الغالبية الساحقة من الشخصيات المتناثرة فى حياتنا التى تُكثر من ادعاءات النجاح والتجارب، رفعت إسماعيل لم يفعل ذلك، ليس عن ذكاء اجتماعى، ولكن لأن شخصيته لا تحتاج إلى ذلك الادعاء.. وفى هذا نضج ورشد حقيقيان.. هنا يجسد رفعت إسماعيل شخصية الرجل كبير السن، كبير المعرفة، كبير الفهم، والناضج والراشد فعلًا، وليس الرجل المسن الذى بقي وعيه على سطح الروح، بعيداً عن الأعماق.. رجل كبر سناً، ولكن عقلًا وروحاً ما زال ولداً.. (وما أكثرهم).
هذه نقطة مهمة فى مجتمع الغالبية الساحقة منه فى سن المراهقة والشباب. وهى قلة وجود النماذج بين الكبار التى تستحق حقاً ذلك اللفظ – خاصة أن الشباب الآن يرى الدنيا والعالم وما فيه وما وصل إليه وأساليب حياته، ويقارن بما فيه مجتمعه وبما يحيط به.. وبين الاثنين يظهر جهل وادعاء وعدم بصيرة، تدفع بكثيرين من الشباب إلى رفض ما حولهم.
ولعل هنا واحداً من أهم نجاحات أحمد خالد توفيق مع شخصية رفعت إسماعيل.. أنه قد اعطى الشخصية الكثير من التجارب والتفاعلات من مجتمعات ومعارف مختلفة، ولكنه صاغ الشخصية لتبقى مصرية فى الصميم، مرتبطة بقوة بوجدان جوهر الفكرة المصرية والأرض والتراث المصريين.. ذكاء الكاتب هنا كان نحت تلك الشخصية التى جالت وعرفت وفهمت ورجعت بالكثير من القصص، لكنها لم تفقد هويتها، حتى بعدما تغير المجتمع وفَقَد الكثير من تراثه.. ذلك المزيج جعل من رفعت إسماعيل، ليس فقط قصاصاً ممتعاً، ليس فقط معلمًا مفيداً، ولكن أيضاً (وغالباً) أهم نموذج (للأسف نادر) للعارف الهادئ، الكبير ليس فقط سنَّا، ولكن أيضاً روحًا وعقلًا.
لذلك على مدى سنوات، تجمع كثيرون حوله ليستمعوا ويأخذهم فى رحلات فى ذاكرته وفى فكره.
وتصورى أن شخصية رفعت إسماعيل، رغم من ظهورها فى سلاسل روايات جيب (كما كانت تُعرف وقتها)، وتلك تقليديا أقل وزنًا من الروايات، سوف تدخل أكثر وأكثر فى تراث الأدب العربى.. ولعل فى سلاسة الكتابة وبساطة الأسلوب واللغة، مع عمق الأفكار وذكاء الاختيارات من الراحل أحمد خالد توفيق، حبكة، ليس فقط ناجحة، ولكنها واصلة إلى عمق الوجدان فى مجتمع ذى تراث ثرى وعميق، ولكنه ذو تجربة حزينة فى العقود الماضية، من ضياع الُمُثل وسيادة السطحية، وترسخ الجهل والضحالة.. لذلك هناك جمال واعد فى التفات الشباب حول تلك الشخصية الجميلة.
- كاتب مصرى مقيم فى لندن