قبل نحو أسبوعين، تحول مؤتمر صحفي، عقده الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار، إلى ما يشبه المحاكمة من جانب أغلب الصحفيين الحاضرين لبرنامج الخصخصة عموما، ولتسارع وتيرة تنفيذ البرنامج في ظل الحكومة الجديدة بصفة خاصة.
خرجت الطلقة الأولى- ويا لها من مفاجأة- من زميلة فاضلة بإحدى الصحف القومية «الرسمية»، علت نبرة صوتها فجأة في ارتعاش، يكاد يقترب من التوسل والاستغاثة مخاطبة الوزير: يا دكتور أنا مش فاهمة ليه السرعة دي؟، أنتوا كدا بتضعفوا الدولة!، إحنا مش ضد الخصخصة، بس مش في كل حاجة، ومش بالشكل دا!.
وسرعان ما توالت انتقادات الزملاء، وكلها إما تمحورت على معارضة مبدأ الخصخصة من الأساس، أو فى معارضة التوسع في برنامجها، ليشمل قطاعات يعتبرها البعض إستراتيجية، كالأسمنت والبنوك والأسمدة وغيرها.
ودارت مناقشات، دافع الوزير خلالها عما تقوم به الحكومة، مستهلا حديثه بسؤال بسيط طرحه على الحاضرين على طريقة الدكتور فتحى سرور الشهيرة -ربما لتبين مدى صلابة الأرضية التي يقف عليها :من كان منكم مع الخصخصة فليرفع يده؟.
ومن بين أكثر من أربعين صحفيا، ضاقت بهم غرفة الاجتماعات بالوزارة، كنت واحدا من بين ما لا يتجاوز سبعة زملاء، قاموا برفع أيديهم -زي الشطار- تآييدا للخصخصة، في حين امتنع الباقون، لأسباب متباينة، إما الرفض التام أو الموت الزؤام، أو الرفض للصياغة المطلقة للسؤال، دون تحديد نوع وشكل ومدى وشروط الخصخصة، الذين هم بصدد قبولها أو رفضها.
والواقع أنني رغم عدم معرفتي بالدوافع والأسباب المختلفة، التي حدت بزملائى «الموتورين المأجورين» الموافقين من أمثالى إلى رفع أيديهم للإجابة بنعم على سؤال الوزير، إلا أنني أقر وأعترف، وبرغم بساطة السؤال المخلة، أنه كان ولا يزال فى نيتي وضميري التأييد المطلق للخصخصة، أيا كانت شروطها ومعدلاتها ومداها.
ليس لما ساقه الوزير من تبرير لها -رغم وجاهته-، استعرض خلاله تجارب الشرق والغرب، التي أثبتت فشل القطاع العام وتدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية، والاتجاه بدلا من ذلك إلى ممارسة وتدعيم دورها كرقيب ومنظم للنشاط الاقتصادي والأسواق، وليس لما ذكره عن الضرورات الداخلية، التي تحتم الإسراع بالخصخصة، كمشكلة المديونية المتضخمة المتراكمة على الشركات، وعدم فعالية إدارة القطاع العام وضعف رد فعلها تجاه الأحداث المختلفة المؤثرة على الأعمال، وعجزها التام في مواجهة المنافسة مع القطاع الخاص، حتى لو كان سٍّريحا متجولا ببعض الملابس في مواجهة سلسلة محلات كهانو وبنزايون وغيرهما من الأساطير القديمة، للقطاع العام الاشتراكي الناصري، «الجملة الأخيرة من عندي وليست من عند الوزير».
لكني أوافق عليها «الخصخصة»، وأؤيدها على الإطلاق، لنفس السبب الذى ترفضها لأجله الزميلة الفاضلة، وهو أنها تضعف من هيمنة الدولة!.
أجل، تخف من قبضتها على النشاط الاقتصادي، ومن ثم على باقي الأنشطة الأخرى الاجتماعية والثقافية والسياسية، ترفع سطوتها عن منظمات الأعمال، واتحادات العمال، والنقابات المهنية، والجمعيات الأهلية، وكافة منظمات المجتمع المدنى.
تجعل جماعات المصالح والضغط المختلفة، تمارس أدوارها، وتدافع عن مصالحها الحقيقية، فينشأ ما يعرف بالمجتمع التعددي الديمقراطي، والذي يقر بتعدد المصالح وتعارضها، وتصارعها، بما يصب في النهاية، في المصلحة العليا لما يسمى الوطن، وليس الوطنطن كما يعرف عندنا.
تجبر الدولة على أن تمارس دورها كرقيب للأسواق -وليس على الضمائر-، وتدفعها بقوة أصوات الناخبين إلى توفير الحماية للمستهلكين والصناع في آن واحد.
في مجتمع كهذا، ينشد رئيس منظمة الأعمال بصدق رضا أقرانه ممن يملكون حق عزله وانتخابه، وليس عطف الدولة وتفضلها عليه بالمنع أو المنح، وينشغل الزعيم النقابي بتحقيق مصالح زملائه العمال، بدلا من التفرغ لإعلان المبايعة لكبار المسئولين، طمعا في تبوء مقعد وزير القوى العاملة!.
وأخيرا في هذا المجتمع، «الديمقراطي» وهذا ما يعنيني على المستوى الانساني، و«الرأسمالى» وهو ما انشغل به على الجانب الاقتصادي، ستفكر الزميلة الفاضلة التي أفنت عمرها في صدق وإخلاص من البيت للجريدة القومية ومن الجريدة القومية للوزارة ومن الوزارة للبيت، ستفكر ألف مرة قبل أن تعطي صوتها، لنقيب للصحفيين، ينشغل عن مصالحهم، بالتأييد والمبايعة والتهليل، تحسبا لموسم التجديد للمؤسسات الصحفية، والذى لا نعرف متى يأتى أبدا!.