إذا فاز حزب المحافظون فى انتخابات 12 ديسمبر، سوف تخرج من بدون فرصة استفتاء آخر، سوف ينقسم حزب العمال مرة ثانية بين التيار الاشتراكى الذى يمثله جيريمى كوربن، وبين مجموعات واسعة ميالة إلى رؤى تونى بلير وجوردون براون التى سيطرت على الحزب منذ منتصف التسعينات إلى سنوات قليلة ماضية، سوف يدخل حزب المحافظين فى دائرة سيطرة أشد يمينية من تلك التى حكمته طيلة سنوات رئيسة الوزراء البريطانية الأشهر فى ربع القرن الماضي: مارجريت تاتشر، ومع كل ذلك، سوف تشتد قوى الدفع داخل الحركات الإيرلندية والاسكوتلاندية التى تريد الانفصال عن المملكة المتحدة (الكيان السياسى الأوسع لبريطانيا).
هذه لحظة مهمة فى التاريخ البريطانى .. لا شك الأهم منذ نجاح مارجريت تاتشر فى انتخابات 1979 وهو النجاح الذى أخرج بريطانيا وخاصة إنجلترا من سياسات بناء المجتمع التى اعتمدتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (التوسع المهول فى التعليم ما بعد الإعدادي، تقوية الجامعات متوسطة الحجم، بناء الخدمة الصحية العامة وهى جوهرة التاج فى الدولة البريطانية)، وأدخلها فى دائرة سياسات الليبرالية الاقتصادية القائمة على سيادة السوق بأقل قدر ممكن من تدخل الدولة والمعتمدة على تمويل مراكز مالية دولية.
لكن بريطانيا تمر بهذه اللحظة التاريخية وعلى رأس حزبيها الأهم رجلان غريبان بمقاييس السياسة والتاريخ البريطانيين. رئيس الوزراء وزعيم حزب المحافظين الحالي: بوريس جونسون أتى إلى رأس الحكومة بعد تنحى تيريزا ماي، لكن الرجل يمثل تياراً فكرياً داخل الحزب شديد البعد عن التيارات التى انتمى اليها كل زعمائه فى العقدين الماضيين. إذن وجوده على رأس الحزب، فى حد ذاته، تجربة جديدة. كما إنه قد أتى إلى رئاسة الوزراء بأخطاء وخطايا شخصية وسياسية تذكره بها الصحافة البريطانية ليلًا ونهارًا، وهذا يقلل من وزنه السياسى، خاصة فى دوائر سياسية واجتماعية فى لندن، ولكن يبدو أن ذلك يعطيه وجهاً أكثر إنسانية، خاصة فى الشمال الإنجليزى وهو تاريخياً أفقر وأقل ثقافة من الجنوب. كما أن الرجل فى أغلب الأحوال يبدو طامحًا وحالماً وأحياناً طامعًا أكثر منه مفكراً ومريداً للتغيير بخطوات واضحة يمكن متابعتها وتحليلها. وربما الأهم فى حالة بوريس جونسون، أنه – وهو خريج أقدم كليات جامعة أوكسفورد، والفاعل فى عدد من الدوائر الأكثر أرستقراطية فى إنجلترا – قد بنى قاعدته الانتخابية فى أسفل السلم الاجتماعى الإنجليزي، وهذه ظاهرة نادرة وغريبة فى بريطانيا، وخصوصا إنجلترا، وهى بلا شك واحدة من أكثر المجتمعات طبقيةً فى العالم.
فى المقابل، على رأس حزب العمال، هناك جيريمى كوربن، وهو نموذج جديد – على الأقل فى المائة سنة الماضية – فى السياسة البريطانية. الرجل بالرغم من تقريبًا أربعة عقود فى مجلس العموم البريطانى، لم يكن قط عضواً مؤثراً، سواء من ناحية التشريعات أو التوجهات المهمة فى السياسات الداخلية أو الخارجية أو حتى من ناحية التأثير داخل المجموعات البرلمانية لحزبه. إلا إن الرجل مثل لفترة طويلة جناحاً قديماً فى حزب العمال كان دائماً رافضاً لتوجه الحزب بعيداً عن مكانه التقليدى فى اليسار (وربما فى أقصى اليسار كما يمكن تصوره فى بلد مثل بريطانيا). لذلك لم يكن غريبًا أن أصبح الرجل ممثلاً للرفض لما جسده تحرك حزب العمال نحو الوسط أثناء العقد الذى حكم فيه تونى بلير وجوردون براون. وقد كان تمثيله لهذا الرفض أهم مؤهلاته أمام مجموعات كبيرة من الشباب، خاصة فى الطبقات الفقيرة (نسبيا) التى خرجت للساحة بعد الانهيار المالى فى 2008 وما تلاه من مشاكلات اقتصادية واجتماعية. لكن إذا كان تمثيل ذلك الرفض جاء بالرجل إلى قيادة حزبه، فقد كان أيضاً هذا المجىء سببًا فى واحد من أعقد الانقسامات التى مر بها الحزب فى الخمسين عاماً الماضية. كما أن الرجل له مواقف خارجية بعيدة جداً عن المتعارف عليه فى دوائر القرار الخارجى لبريطانيا .. وأغلب هذه المواقف فى الحقيقة ليس فقط متعاطفاً، بل قريب جداً من مواقف عربية، خاصة تلك الخاصة بالقضية الفلسطينية. ولكن الحاصل أن هذه المواقف، بغض النظر عن أى رؤية عربية، خارجة عن نطاق المصالح البريطانية كما جرى تصورها طيلة عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية. كما إن هذه المواقف تضرب القرب الاستراتيجى بين بريطانيا والولايات المتحدة، وهذا القرب هو أقدس تعاليم السياسة الخارجية البريطانية. وأخيراً، وربما النقطة الأهم، فإن كوربن، بالرغم من ظاهرة الإعجاب به وسط طبقات شابة أغلبها فقيرة، يبقى بعيداً جداً عن وجدان الطبقة الوسطى فى إنجلترا وهى القوة الأكبر فى السياسة البريطانية كلها.
بريطانيا إذن تذهب إلى انتخابات فى غاية الأهمية، ولها ما سيلحقها، وعلى رأس حزبيها الرئيسيين زعيمان يُفرقان أكثر مما يجمعان، ويُثيران تساؤلات أكثر مما يُقدمان إجابات. ولعل نتيجة ذلك ضباب أكثر وانقسامات أكثر وأسئلة أعقد.
* كاتب مصرى مقيم فى لندن