يكاد لا يمر عليك يوم فى هذا البلد، إلا وتلقى عليك الحكومة أو أحد من أحبارها وحوارييها قصة أو خبراً سعيداً!، خبر يملي عليك من فرط سعادتك رغبة جامحة إما فى التقاعد أو الهجرة أو الانتحار، قصص يشيب لها الوجدان وتجن منها العقول وتقشعر من نتائجها وتوابعها الأبدان، ولنأخذ عينة- مجرد عينة- من حكاوى الأيام القليلة الماضية فقط.
- فرمان وزير المالية «الأخير» بضرب قطاع السياحة وصناعة السيارات، بفرضه المفاجئ لزيادة كبيرة فى نسبة ضريبة المبيعات، وما يسمى رسوم تنمية موارد الدولة، بحجة توليد مبلغ لخزانة الدولة تضاربت الأقوال فى تقديره ما بين مليار إلى 1.5 مليار جنيه، دون حساب ما قد يترتب على هذا القرار على الجانب الآخر من انخفاض ايراداتهما، وربما فقدان مئات الآلاف من العاملين بهما لوظائفهم، ومن ثم تقلص ايرادات الحكومة منهما فى صورة ضرائب مباشرة وغير مباشرة وموارد بالعملة الأجنبية.
- قرار وزارة العدل «الأخير» بمنح السلطة القضائية للأزهر، لمصادرة المطبوعات المخالفة للشرائع والمبادئ والقيم الإسلامية والأخلاقية، فى الوقت الذى لا تكل فيه الحكومة ولا تمل- نعترف أن الملل قد أصابنا نحن- من تكرار الحديث والتشدق بحرية رأى والابداع وشعار الديمقراطية فى أزهى عصورها، بينما هي لا تكتفى فقط بسلطتها المدنية فى المصادرة، بل وتضيف إليها- وترسخ- سلطة دينية.
- قرار وزراء الزراعة وقطاع الأعمال والتموين «الأخير»، بتنحية القطاع الخاص جانباً من تجارة توزيع الأسمدة الآزوتية، وقصر تسلم إنتاجها من المصانع على بنك الائتمان الزراعي، وهكذا بدلا من اللجوء إلى ضبط حركة السوق وحماية حقوق المنتجين والمستهلكين من خلال آليات عمل لأجهزة تنظيمية ورقابية، استسهلت الحكومة ممثلة فى وزرائها الثلاثة الأمر وقررت احتكاره- السوق- وإقصاء باقى اللاعبين من ساحة الملعب.
- الضجة العبثية «الأخيرة» التي افتعلتها الرقابة على المصنفات الفنية قبل سماحها- لاحظ سماحها- بعرض فيلم «بحب السيما» لمخرجه النابه أسامة جرجس فوزي، واقتضاء الأمر مشاهدة ثانية من اللجنة العليا للرقابة- حتى الرقابة شكلوا لها لجان عليا ووسطى وفرعية- برئاسة الدكتور جابر عصفور قبل إجازته، وعليك أن تمسك أعصابك وتقبض على لجام نفسك المتمردة، وأنت تسمع على هامش هذه الحدوتة الهلامية بعض أعضاء اللجنة من المثقفين وهم يمتدحون الفيلم ويأخذون عليه- فى تزيد واضح على المفاهيم البلهاء للوحدة الوطنية- أنه وهو يتعرض لحياة أسرة مسيحية من الطبقة الوسطي، لم يتضمن شخصية مسلمة واحدة!، وكأن المفروض بمنطق التضاد أن يحرص كتاب الأفلام الاجتماعية الأخرى على تصنع وافتعال شخوص مسيحية فى نسيج الدراما، وإلا نالهم انتقاد رقابي، بحجة تهديد الأمن الاجتماعي والوحدة الوطنية!
ما هذه المسخرة؟!
والمذهل فى كل هذه القصص «الخزعبلية» السابقة، أن أغلب أبطالها تبدلت أحوالهم وأفكارهم وسلوكهم عقب دخولهم دائرة السلطة وتبؤئهم مقاعد الوزارة أو الرقابة.
فمن منا لا يتذكر الدكتور مدحت حسانين أستاذ التمويل بالجامعة الأمريكية، بآرائه التي كانت تزخر بها الصحف والمجلات السيارة حول القطاع الخاص ودوره، وأهمية تشجيع الاستثمار وحوافز الاستثمار ونظن- وليس كل الظن إثما- أنه لو لم يكن الآن فى موقعه الحالي، لانتقد بحدة تلك الفرمانات المفاجئة لوزير المالية!
نفس الأمر ينطبق على الدكتور مدكور ثابت رئيس الرقابة، الذي نتخيل أنه كان سيملأ الدنيا صراخا على ما تعرض له فيلم «بحب السيما» من عبث، وذلك- وذلك فقط- قبل جلوسه على مقعده الرقابى!
والغريب أن حالة الشيزوفرينيا هذه لا تنطبق فقط على من فرض عليهم تبدل الظروف تغير الأفعال والسلوك، وانما أيضاً على القابعين فى مقاعد السلطة من سنوات طويل حتى أنك تكاد أن تجن وأنت تراقبهم يحاضرون رجال الأعمال، فيشعرونك أنهم على يمين منظمات الأعمال، ثم يخطبون فى اتحادات العمال والفلاحين بمفردات وعبارات وأفكار، توحى بأنهم على يسار حزب التجمع!
فيصبح من البديهى أن يأتى الفعل فى منطقة «البين بين»، وأن تهل النتائج من جنس الأفعال- أو بمعنى أدق التناقض فى الأفعال والأقوال- مزيد ومزيج من تلجيم القطاع الخاص والقطاع العام، وارتفاع البطالة وانخفاض القوى الشرائية- رغم زيادة الدعم-، وتراجع الموارد رغم زيادة الضرائب، وتدهور الابداع فى كافة المجالات، رغم إدعاء توافر حرية التعبير.
ثم يطلبون منك بعد ذلك أن تنتمى وتخلص وتنتج وتفكر وتبدع وتنطلق إلى آفاق العالمية والاقليمية و… إلى آخره، فى ظل كل هذا العبث طب إزاى؟!