في الثالث عشر من أكتوبر 1988، فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب، عن ثلاثيته “قصر الشوق – بين القصرين – السكرية” ورواية “أولاد حارتنا”، إلا أن الأخيرة -التي لم تصدر بمصر- أثارت حفيظة عدد من رجال الدين، الذين فسروا الرمز بها على طريقة لم يفصح عنها صاحب الرواية نفسه.
صدرت رواية “أولاد حارتنا” في بيروت عن دار الآداب، ووصلت إلى القارئ المصري من هناك، بعد أن نشرها الكاتب مسلسلة بجريدة الأهرام في 1959 ابتداء من الحادي والعشرين من سبتمبر حتى الخامس والعشرين من ذات الشهر، ما حثّ بعض رجال الدين على المطالبة بوقف نشرها؛ استنادًا إلى تأويلات دينية تتماس مع قصص بعض الأنبياء.
وبعد أن صدرت الرواية ببيروت في 1962، ظلت متاحة في مصر لمن يريدها، دون إثارة أزمات، إلى أن أعلنت لجنة جائزة نوبل في تقريرها أن الكاتب استحق الجائزة عام 1988 عن 4 أعمال منها “أولاد حارتنا”، ومن بعدها فُتح باب جهنم على محفوظ، إلى أن وصل إلى حد القتل بسكين على يد شاب من الجماعة الإسلامية في أكتوبر 1994، بعدما أعلن في التحقيقات، أن المشايخ قالوا له إن “نجيب محفوظ” مرتد عن الإسلام، وأفتى أمير الجماعة عمر عبد الرحمن بإهدار دمه، رغم أن الشاب لم يقرأ العمل أصلًا، طبقًا لـSWI السويسرية وRT الروسية.
صراع بين قديم متجدد على «أولاد حارتنا»
ولم يدخر الشيخ عبد الحميد كشك؛ الإمام الشهير، جهدًا في أن يُخرج نجيب محفوظ عن حظيرة دينه، فأصدر كتابه “كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا” توصل فيه إلى أن الروائي من أعداء الإسلام بينما من يدافع عن العمل من أدعيائه.
بينما أصدر الكاتب محمد جلال كشك كتابه “أولاد حارتنا.. فيها قولان” دافع فيه عن نجيب محفوظ وهاجم المتطرفين من الإسلاميين واليساريين، وأكد على إسلامه وحضارته الشرقية، وحاول أن يجد مخرجًا لتفسير رؤية “الجبلاوي” كونها نص أدبي وموروث شعبي، تخالطه تصورات توراتية إسرائيلية، وتكلم كذلك عن مناط الأحكام الشرعية وتنفيذها في الإسلام وعن جمال الدين الأفغاني وعن قضايا اليسار وعن سلمان رشدي.
وحسب مقال للكاتب سعد القرش بصحيفة العرب اللندنية منشور في الحادي عشر من نوفمبر 2017، قال فيه إن سليمان فياض نشر في صحيفة الأهالي مقالًا بعنوان “خفايا تكفير نجيب محفوظ على يدي شيخين من الإخوان المسلمين”، وهما السيد سابق ومحمد الغزالي، حيث كانا مسؤولين عن إدارة المساجد والدعوة بوزارة الأوقاف، وابتكرا لجنة “الدفاع عن الإسلام” التي كان سكرتيرها سليمان فياض، وعقدت ذات يوم لمناقشة “أولاد حارتنا”، وقدم الشيخ الغزالي ورقتي اتهام وإدانة للرواية، في غيبة من الدفاع والمتهم، وبآخر المجلس حُكم بإلحاد نجيب محفوظ وتكفيره.
وكما يقول القرش، إن سليمان فاضل حينما قدم تقرير اللجنة إلى نجيب محفوظ سأله: معنى ذلك أنها لن تنشر في كتاب؟ فاقترح عليه فاضل نشرها في دار الآداب ببيروت، وكتب رسالة إلى سهيل إدريس، الذي حضر إلى القاهرة بعد أسبوع من الواقعة وتعاقد مع الكاتب.
وبعد سنوات -كما أضاف القرش- حينما باءت محاولة اغتيال محفوظ بالفشل، جاء الشيخ الغزالي زائرًا له في مشفاه، بنهاية نوفمبر 1994، وأبلغه الكاتب أنه قرر ألا ينشر العمل في مصر إلا بموافقة الأزهر، بينما قالت زوجته إن الرواية في أيدي القراء بالفعل، فعلق الغزالي بأن “السموم تنتشر بالطريقة نفسها رغم حظرها”.
«الجبلاوي» و«أولاد حارتنا» في رؤية النقد
وقال الدكتور محروس محمود القللي؛ الأستاذ بقسم اللغة العربية بجامعتي دمياط والسلطان قابوس، في دراسته “التقاربان الشكلي والنمطي: الممنوع والمحرم بين روياتي أولاد حارتنا لنجيب محفوظ والمنصة لميشيل ويلبيك”، إن الفلسفة كانت مصدرًا مهمًا لمحفوظ في أعماله، حيث يرى أن العلم دين المستقبل والثورة الهادئة، وتشكّلت تلك الرؤية بشيء من العمق في “أولاد حارتنا”، ويحتاج تفسيرها لمزيد من النقاش حول فكرة التحريم “التابو”، في الإطار الفكري الإسلامي، مثل شخصية “الجبلاوي”، ومجازيتها التي تعبر عنها، أو قربها من الحقيقة في اللغة المكتوبة، وكذلك “المنع” الذي يكون سياسيًا عقديًا في غالب الأحيان.
وأضاف أن نجيب محفوظ له رؤيته في إطار غير قائم على سببية، دون إلقاء تهمة أو تعمد تشويه، ولكنها تقاطعات فلسفية كامنة في ضميره، خاصة بعد أحداث يوليو 1952، حيث الأفكار التي بدأ يعالجها في أعماله التي تثير عددًا كبيرًا من التساؤلات الفلسفية؛ بحثًا عن اليقين والحياة، كما في “اللص والكلاب 1961″ و”السمان والخريف 1962″ و”ثرثرة فوق النيل 1966” على سبيل المثال، فضلًا على بداياته التي شهدت تحرير مقالات فلسفية حول “الله” في “المجلة الجديدة” التي كان يصدرها سلامة موسى.
وبيّن أن “أولاد حارتنا” قدمت بعدين نمطيين أدبيين لرسم معالم مجتمعية، حيث “الجبلاوي” الذي يعد أمة وحده، مترفعًا عن النقد -برمزيته- ومتحاشيًا عن التواصل مع البشر من أهل الحارة بنفسه، له من صفات الديكتاتور ما لدى السياسيين، ممن عزلوا أنفسهم عن الشعوب، واستغنوا عنهم بآرائهم، وأقصوا أنفسهم عن العالم.
وأشار إلى أن أبناء “الجبلاوي”، انتابهم الرمز أيضًا، بينما لم يميزهم النص الروائي، فظهر منهم التقي والمتمرد والقاتل والمساكين، وتلك الفئة الأخيرة من طائفة “من ينتظر”، مشيرًا إلى أن ما حفّز فكرة الهجوم والمنع ضد الرواية أن المؤسستين السياسية والدينية قد تلاقت مصلحتهما آنذاك، فصُدق قرارات المنع وبُورك الإقصاء.
وللاطلاع على الدراسة كاملة:
وقال مرين أحمد وخليفي بشير، في دراستهما “اللغة الروائية وتأثيرات الفلسفة: رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ أنموذجًا”، إن التفاعل بين الفلسفة والأدب ينتج لغة جديدة مميزة، لها خصوصياتها، فضلًا على أن الروائيين أصحاب التكوين الفلسفي على غرار نجيب محفوظ، بحكم تخصصه في الفلسفة وتكوينه الجامعي، أكثر وعيًا وإدراكًا للطبيعة المعرفية والفكرية للمواضيع المنتقاة، وكذا بلغة الكتابة على حد سواء.
وأضافا أن التوجه والتكوين العلمي ساعد نجيب محفوظ وغيره من الروائيين في ذلك المجال على تحقيق الفاعلية الروائية، بالنظر إلى الدور الذي تقوم به الفلسفة، بسبب امتلاكها آليات التفكير والنقد القائم على ضرورة الشك المؤسس على مفصلية المنهج، وكذا حيازتها على نمط التفكير وخاصية المعرفة القائمة على الجدل والتعدد والتنوع.
وأشارا إلى أن فاعلية نجيب محفوظ تتجلى في إثارة الإشكالات والاستفهامات بـ”أولاد حارتنا”، ويعود ذلك في مقام أول إلى عبقريته ومؤهلاته السردية على مستوى اللغة والتفكير والخيال الواسع، مع توظيفه للرمز الديني، متمثلًا في قصص الأنبياء، وإسقاطها بطريقة متفردة سلسة على الواقع الذي تمثله الحارة بأحداثها وشخوصها المختلفة والمتعددة، نتيجة تعدد رواتها.
وألمحا إلى أن نجيب محفوظ ذكر في بداية العمل أن الراوي شهد طور الحارة الأخير، وسجل أغلبها عن طريق سماع الحكائين -وما أكثرهم-، من أجل وصف الواقع وتبليغ صورته للعالم، وكذلك الرغبة في إصلاحه، عبر نقده ومحاولة إيجاد حلول لمشكلاته.
وللاطلاع على الدراسة كاملة:
وقال نعيم عموري؛ أستاذ اللغة العربية وآدابها بجامعة شهيد چمران اهواز، في دراسته “التناص القرآني في روايتي أولاد حارتنا وميرامار لنجيب محفوظ”، إن الكاتب كان في رواية “أولاد حارتنا” أكثر اهتمامًا بالدين، لأنه كاتب تحليلي يتقصى أعماق نفسية شخصياته حتى يكمل للمتلقي الصورة، حيث تقاطعت شخصيتا “الجبلاوي” و”أدهم” مع قصة آدم في الدين.
وأضاف أن الرواية تزخر بالرمز والتصوف ونشاط علم النفس، لكثرة الرمز القرآني بها، مع التركيز على أن الرمز أوضح الناس من أهل الحارة على ضلال ونفاق وجهل لم يفارقهم منذ أمد بعيد، وصوره عبر شخصيات بعض الذين خانوا مبادئهم، واستخدم في ذلك أدوات دينية لدعم فكرته.
وبيّن -وشدد على ذلك- أن نجيب محفوظ لم يكن كاتبًا إسلاميًا، ولكنه لم يشر من قريب أو بعيد عبر أعماله إلى شيء ضد الدين عامة أو الإسلام خاصة، بل كان أدبه دواء للكثير ممن يفهمون الأدب.
وللاطلاع على الدراسة كاملة:
في النهاية، نشرت رواية “أولاد حارتنا” مسلسلة، ثم أُتيحت ككتاب لمن يريد شراءها أو قراءتها، ولم يرتد قارئ بسببها، منذ 1959 حتى صدرت بالقاهرة في 2006، وإلى الآن.
وقد صدرت الرواية بمصر عن دار الشروق، بمقدمة أحمد كمال أبو المجد، وكلمة بغلافها الخلفي لمحمد سليم العوا، ولا تخلو منها مكتبة الآن، بينما ظل محفوظ طوال سنواته لا يفصح عن تفسير رموزها بشيء، تاركًا ذلك للمتلقي، ما يُكسبها بُعدًا لا متناهٍ من التفسيرات.
لمحة أخيرة عن صاحب «أولاد حارتنا»
ووُلد نجيب محفوظ في الحادي عشر من ديسمبر 1911 بحي الجمالية بالقاهرة، وكان والده موظفًا حكوميًا، واختار له اسم الطبيب الذي أشرف على ولادته؛ الدكتور نجيب محفوظ باشا، ليصبح اسمه مُركبًا “نجيب محفوظ”، حسب BBC البريطانية.
وبعد تخرجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًا بها لمدة عام، ثم شغل العديد من الوظائف الحكومية، مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة.
وعزم محفوظ استكمال الدراسة الأكاديمية ونيل درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع “الجمال في الفلسفة الإسلامية”، ولكنه خاض صراعًا مع نفسه بين عشقه للفلسفة، وحبه للحكايات، الذي بدأ منذ صغره، وأنهاه لصالح الأدب، مقدمًا الفلسفة عبره.
وقد أثرت واقعة اغتياله في 1994 على أعصاب الطرف الأيمن العلوي من الرقبة لديه، ما سلبه كامل القدرة على الكتابة.
ورحل نجيب محفوظ في الثلاثين من أغسطس 2006، بعد حياة حافلة بالإبداع، الذي يحتفي به كل إنسان.