عن تفرد الشعر العربى بين لغات العالم، كتب الأستاذ العقاد هذا المقال بمجلة الأزهر بالعدد 34 فى ستينيات القرن الماضى، ليستهله بأن من المقرر فى تاريخ الأدبين العربى والفارسى أن اللغة العربية انفردت بفن العروض، وأن بعض أوزان الشعر فى اللغة الفارسية مستعار من أعاريض العرب، ويغلب أن تكون الاستعارة من قبائل العرب التى اتصل بها أناس من رواد الشعر الموزون بين شعراء الفرس الأقدمين.
وقد كان الجاحظ ـ أديب العربية الكبير ـ يقرر هذه الحقيقة على علم بوجوه المقارنة فيها، وهو ما كان الأستاذ العقاد قد ألمع إليه وعقب عليه فى كتابهً «اللغة الشاعرة» الصادر سنة 1960، وفى هذا الكتاب الضافى أورد أن الشعر وإن كان قد وجد فى كل لغة من لغات القبائل والأمم المتحضرة، إلاَّ أنه لم يوجد فنًّا كاملاً مستقلاً عن الفنون الأخرى فى غير اللغة العربية، والمقصود بالفن الكامل ـ فيما قال ـ الشعر الذى توافرت له شروط الوزن والقافية وتقسيمات البحور والأعاريض التى تُعرف بأوزانها وأسمائها وتطرد قواعدها فى كل ما ينظم من قبيلها.
ويضيف هنا أن الأديب الفارسى «محمد عوفى» يعرض لهذه المسألة كما عرض لها الجاحظ، ويرى أن «بهرام جور» كان رائد الشعر الموزون بين شعراء الفرس الأقدمين، لأنه عاش بين العرب وتأدب بآدابهم.
ولكن المستشرق الفرنسى «بنفنست ـ Benviniste» يستخلص من مطالعاته فى اللغة البهلوية القديمة رأيًا غير هذا الرأى، ويذهب فى قراءته لبعض قصائدها مذهبًا يدعو إلى إعادة النظر فى مسألة العلاقة بين الأوزان العربية والفارسية !
وإلى هذه المطالعات ـ فيما يبدى الأستاذ العقاد ـ أشار الباحث الفاضل الدكتور محمد غنيمى هلال، فيقول فى الطبعة الثانية من كتابه فى الأدب المقارن بعد تمهيد عن أثر العرب فى آداب الفرس : «إن الأدب البهلوى أو الإيرانى القديم راجت فيه نزعة شعبية يقصد بها شرح وجهتى نظر مختلفتين فى شكل حوار أو جدل… وقد بقى لنا من الأدب الإيرانى القديم حوار أدبى قديم عنوانه «الشجرة الأشورية» وهى النخلة.. موضوعه حوار بين النخلة والتيس أيهما أفضل من الآخر، وقد وصلت إلينا هذه القطعة مكتوبة على طريقة النثر، ولكن العالم الفرنسى «بنفنست» اكتشف أنها فى الأصل ذات وزن وقواف، وأن النُسَّاخ كتبوها فى صورة النثر جهلاً منهم بالشعر الإيرانى القديم، وهذا الوزن قريب من المتقارب المثنوى المعروف فى العربية ثم فى الفارسية الحديثة بعد الفتح الإسلامى».
وهنا يتوقف الأستاذ العقاد ليبدى أنه لا يحسب ـ بعد اطلاعه على هذا الكشف الجديد ـ أن الحقيقة تتغير فى شأن انفراد اللغة العربية بالفن العروضى، ذلك أن وجود الوزن فى أشعار الأمم الأخرى لم يكن قط موضع خلاف بين مؤرخى الآداب الغربيين أو الشرقيين، وإنما يدور البحث فى هذه المسألة على انفراد الشعر العربى بفن عروضى مستقل عن الغناء، سواء تغنى به الناظم أو اكتفى بإنشاده بغير تنغيم أو بغير (موسقة) كما يقال فى الإصطلاع الحديث.
فالأمر المحقق ـ فيما يبدى ـ أن هذا الفن العروضى ـ خاص باللغة العربية لا نظير له فى لغة أخرى من اللغات على اختلاف أصولها السامية أو الهندية الجرمانية.
فوزن الشعر وتطويعه للغناء لا خلاف على عمومه بين كثير من الأمم، ولكن الفرق بين الوزن الذى يتوقف على الغناء والوزن الذى يستقل بنظمه على بحوره المختلفة وتفاعيله المتعددة ؛ هو أن الشعر والنثر سواء فى قابلية التنغيم أو (الموسقة) والإيقاع، ويوجد فى اللغة العربية الدارجة أغانى مكتوبة نثرًا لحنها الملحنون فصارت «أناشيد» تعزف.
أما الشعر الذى يقال إنه موزون فى اللغات الأجنبية، فإنه ليس له فن من الوزن مقدور بغير مقادير التلحين على اختلاف القاعدة فى تقسيم ألحانه. فهم تارة يحسبونه بالسطر وتارة بعدد المقاطع وتارات أخرى بعدد النبرات أو عدد الوقفات، وحكمه من الناحية الفنية حكم الكلام المنثور الذى لا فرق بين المرسل منه والموزون فى اعتماده على الغناء وتطويعه للألحان الموسيقية.
ومن أسباب هذا الفرق ـ فيما يعتقد ـ أن الكلمات فى اللغات الأجنبية تتألف بلصق بعض الحروف ببعض على غير وزن مطرد، ولكنها فى اللغة العربية تؤلف على قواعد من أوزان معلومة وقوالب مطردة.
وهنا سبب آخر شبيه بذلك بالفارق بين أوزان الشعر عندنا وعندهم، أن الحركة مقدورة فى كلماتنا على حسب درجاتها من الامتداد، فعندنا الحركة التى يمثلها الشكل بالفتحة أو الكسرة أو الضمة أو السكون فضلاً عن حركات حروف العّلة كالألف والواو والياء، بل وفى هذه الحروف الممدود والمضاعف المد، وهذا لا نظير له فى اللغات الأخرى.
ويضيف الأستاذ العقاد أنه بين يديه وهو يكتب هذا المقال ـ عدد شهر يناير من مجلة «الإنكاونتر ـ Encounter»، وهى مجلة عالمية متخصصة فى الأدب والفن، منشور فى عددها هذا الأخير فصل بعنوان «عروس الشعر العصية» للمستشرق «ديسموند ستيوارت» يعنى بها فن الشعر العربى، ويخلص إلى تقرير الرأى الغالب على العارفين بهذا الفن من أدباء الغرب، بأن الشعر العربى من أدق الفنون وأعصاها وأحوجها للعناية عند النقل والترجمة، لأن مزاياه ليست من قبيل المزايا الشائعة فى آداب الأمم بل وفى اللغات السامية التى تنسب لها اللغة العربية.
ويقول العالم المستشرق ـ فيما يقوله، إن اللغة العربية لغة نقية صافية على نحو لم يتوافر لغيرها من لغات الحضارة، وأنها مع ذلك تستطيع أن تؤدى العبارة التوراتية المقدسة كما تستطيع أن تؤدى عبارات الأدب، واستشهد فى ذلك برأى الشاعر اليهودى المعاصر المشهور «عزرا باوند».
لا شك إذن أن اللغة العربية انفردت بهذا الفن المطواع لأهله، العصى على الغرباء عنه، ومن حقها علينا ألا نفقد مزاياها بأيدينا، بعد أن بلغت التمام عندنا بما لم تبلغه اللغات عند غيرنا.
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com