هل التحرش فن أم جريمة؟
استفزك العنوان أم حاولت إجابة السؤال؟ هل جعلك تفكر فى فنون التحرش الجنسى فقط، أم جعلك تبحث نوع هذا الفن أو صوره؟ هل بدأت تسن قلمك لترد على العنوان المتبجح أم سيكون ردك (تحرشا) بسؤالى؟
أعلم إذن أن هذا العنوان نوع من (التحرش الفكرى) الذى يمارسه أغلبنا على اغلبنا ليضيع أغلبنا فى اغلبنا! وهو نوع اخطر من التحرش الجنسى بمراحل، لأنه أحيانا يمتد لوعى الأمة وليس فرد محدد!
فن التحرش والتحرش الفنى لخصه رولان بارت فى مفهوم الإحساس بالوخز Punctum عند تقييمه للصور الفوتوغرافية، بان الوخزة الناجحة هى انطلاق عنصر أو أكثر من عناصر الصورة كالسهم ليخترق المتلقى! وكما قالت كاترين لامور ان «إن العمل التشكيلى القوى هو من ينجح فى لسع ـ الجمهور وإيقاظ الضمائر النائمة».
مفهوم الوخز، صاحب قضية التحرش عالميا، كثقافة للنظام السارى فى المجتمع، نتيجة تفشى مفهوم استبداد من هم اعلى سلطة بمن هم أقل/اضعف منهم، بما يبرر تحرشهم المادى أو الجنسى أو اللفظى أو الفكرى. الخطورة فى قصر ربط التحرش بالجنس، لأسباب ذكورية أو مجتمعية أو اقتصادية تمنع العلاقات الطبيعية أو تربوية أو اعلامية. فى حين إن التحرش الفكرى يستغل ثقافة اللاوعى، اللا فكر، ليتعامل مع أفكارنا السليمة والصحيحة بمنطق المتحرش الجنسى الساعى لكسر المرأة وانتهاك كرامتها، فيهدف تحرش الفكر لكسر تفكيرنا وقدرتنا على النقد الموضوعى. المتحرش الفكرى صانع لافكار يبثها بالآخرين، فيسيطر بها على امور متعددة قد تكون مادية، أيدلوجية، عقائدية، سياسية. المشكلة أن التحرش الجنسى مُجرم عالميا، أما التحرش الفكرى فطليق السراح غير مُجرم، بل وكثيرا ما يقنن ويؤطر باسماء مختلفة، وهذا هو الفن فى الوخز غير المُجرم!
يتميز فعل التحرش بتضمنه لمجموعة افعال من الانتهاكات البسيطة الى المضايقات الجادة، التى قد تنتهى بجريمة حقيقية مدمرة، وفى جميع الحالات تغلب على شخصية المتحرش السلبية واللامبالاة وعدم الاهتمام بتبعية تصرفاته، لمجرد تنفيذ افكاره اللحظية. تغييبه عن مسؤولية تصرفاته يجعله فاقد الإحساس، فيشعر بالرضا والسيطرة لمجرد نجاحه فى (اختراق المتلقي). هذه الصفة السيكوباتية تغلب على افراد المجتمع، إلا أن السيطرة عليها بالوعى بعواقبها والردع القانونى، يجعلنا نُحجم عن هذه الافعال، لتظهر فى أشكال أخرى من التحرش الواخز غير المقنن.
يساهم الإعلام الأسود فى نشر التحرش بكافة صوره، فربط السينما مثلا القوة بالقدرة بالسلطة الأعلى بنشوة الانتصار، انتج جيلا يرى فى التحرش إعلانًا عن الذكورة والاستطاعة والنجاح! وهو ما أفرز فنا مقابلا بدفاع يتحرش بالمجتمع كله!
من الخطأ قصر مفهوم التحرش بالجنس، لأن إصدار الشركة قرارات متعسفة غير عادلة، تحرشا بمستقبل موظفيها، ولو كان فعلها مبررا لمصلحتها! كذلك لو تحرش الموظفين المعطوبين بمصالح الشركة فأعاقوها. تصدير جماعة معينة لفكرها الفارض قسرا تحت مظلات وسلطات مختلفة، تحرشا بفكر الآخر ومصادرة على حرية رأيه فى النقد والرد! بل ان تبنى دولة ما لحرية الرأى المطلقة والدفاع عنها، تحرشا بحق الآخر فى الاحترام والوجود.
أيضا قد يصل التحرش لممارسة الحقوق! فالتحرش القضائى متصور فى الدعاوى الكيدية عارية السند، وهنا يظهر فن التحرش فى التغطى بحق التقاضى والشكوى! التحرش اصبح ثقافة تتلون حسب المصالح، المظهر الوحيد المؤثم هو التحرش الجنسى، الذى يقاوم بالتوعية والبلاغ والشكوى والعقاب. ولكن اين يشكو المتحرش بفكره ورأيه وسلامه النفسى؟
من جهة أخرى؛ التحرش الفكرى بالمجموع، يمتد لأى فرد أو جماعة تهدف إلى التلاعب Manipulation بالعقول والمستقبل، فعندما اقنع هتلر الالمان بتميز الجنس الآرى، انطلق يتحرش بالعالم بفكر مقولب كانت نتيجته دمار المانيا فى حقبة معينة. هجمات داعش المصنوعة أمريكيا، تحرش امريكى غير مباشر بالإسلام والسلام العالمى. إطلاق كورونا من المعامل والتلاعب باللقاح ومؤامرة الشريحة، تحرش بالبشرية نحو النظام العالمى الجديد. رد التحرش الجنسى بفن تشكيلى يوظف الكلمة والخط ليلون بها الوجع، تحرش فنى وفكرى واخز لمباديء وقيم فنية واجتماعية. لغط زواج المسلمة بغير المسلم، تحرش بمسلمات شرعية لنخر المستقر وتمهيد للقادم. تشجيع ضرب سد النهضة، تحرش بسياسة الردع وحلول الواقع. استخدام السلطة لاقتناص غير المستحق، تحرش بالقانون وحقوق الآخرين.
أصبح التحرش فنا يمارسه أغلبنا على أغلبنا ليضيع أغلبنا فى اغلبنا! والنتيجة توقع لمزيد من التصعيد والتلون والتخفى. اصبح التحرش الجنسى مضطهدا، أمام توحش التحرش الفكرى الذى يجتاح فكرا وعقولا وآراء وتوجهات، لدرجة تحول التحرش الجنسى للاباحة فى منهجيات معينة! الخطورة تحجيم التحرش الجنسى والتغافل عن صور التحرش الاخرى، بدعوة حرية الراى والعقيدة والفن وحماية المصالح والمستقبل. الأخطر مصادرة الآخر بدعوة التحرش بالاستقرار وقمعه تحرشا بوجوده ذاته.
هل ظهر الآن معنى سؤالى التحرش فن ام جريمة؟
جريمة تقنن وتُعاقب التحرش الجنسى فقط أم فنا ينخس الفكر والمجتمع والوعى الجمعى بلا عقاب؟
لن نصل إلى إجابة طالما استمر التحرش تعبيرا عن ثقافة مجتمع، لبس فيه استبداد الأعلى ثوب القيادة وأصبحت القوة عنوان الرضا. فقضية التحرش قديمة بعمر الإنسان وحديثة بتغوله ونهمه بتغيير ما بقى من القرن الـ21.
ومع ذلك، فالامل الوحيد هو الفهم والمراجعة والسيطرة على نزعتنا.. فلا نمّكن السيكوباتى فينا من التحرش باحلامنا فى مستقبل مستقر.
* محامى وكاتب مصرى
bakriway@gmail.com