عنتر سد النهضة!

عنتر سد النهضة!
محمد بكري

محمد بكري

6:52 ص, الأثنين, 7 يونيو 21

سأل أعرابى يوما عنتر بن شداد: كيف أصبحت عنترا يا عنتر؟

فقال: ضع إصبعك تحت فكى وأضع أنا إصبعى تحت فكك، ويخسر من ينطق الآه! وما هى إلا لحظات حتى صرخ الرجل آآآآآه، فقال عنتر: لولا قلتها أنت لنطقتها أنا، وصبرى لحظة هو ما جعلنى عنترا!!!

أقول هذا وأتوسم فى موقف سد النهضة امتحان عنتر؟؟؟

 الوضع الآن هو تبادل إصبع وجود السودان وخطر مصر تحت فك سد النهضة، وإصبع إثيوبيا تحت فك منظومة الدفاع الشرعى من البلدين ومحاولات تحييد أمريكا وتفاعلها واستقطاب الضغط الدولي.

 فك البلدين السفلى التفوق العسكرى المصرى وجغرافية السودان، والفك الأعلى منظومة شرعية الدفاع عن الوجود وثقل مصر دوليا وتأثير كارثة ملء السد أو ضربه على المنطقة.

فك إثيوبيا السفلى هو سد النهضة وفكها العلوى هو الدعم الخفى المعزز لتبجح إدارتها لدرجة تهديد وجود دول، وليس فقط ضرب مصالحها!

 إثيوبيا تضغط بنواجذها على إصبع البلدين بفرض واقع الملء المهدد لوجود السودان وتنمية وتسيد مصر. ومصر تضغط بشرعية الدفاع وفنون الردع. لمصر الآن ما تنميه وتحافظ عليه وتوسعه، باستثمارات المليارات بآخر 6 سنوات، المهددة بقوة متعسفة، للطرفين الآن قوة مادية واقعية على الأرض للضغط على الآخر، ولكن بدون دماء حقيقية حتى الآن.

 المشكلة الآن تصاعد توظيف الضغط واستغلال العنترين من آخرين، لخلق مفاوضات بضغوط رهيبة تتم بسكون، استغلالا للموقف وتناقض المصالح، لاستخلاص وفرض مميزات وفرص، قد تغير وجه الاقتصاد الأفريقى والشرق أوسطى إن تمت! وأى تهاون سياسى مع هذه الضغوط سيفقد جزءا عظيما من شرعية القيادة.

 أمريكا والغرب والأمم المتحدة حتى الآن، لم يمارسوا دورا جادا لإيقاف التعسف لاستخدام حق إثيوبيا بالسد، بما لا يضر بمصالح جيرانها أو يخالف الاتفاقيات الدولية. هذا الصمت، التغافل، التعامى يشير بوضوح لحجم قوة وتأثير جماعات الضغط المقوية لقلب إثيوبيا! سواء بحماية جسم السد أو شبكات الرادار أو الدعم غير المباشر.

فلا شك أن غنيمة إثيوبيا وإدارتها من هذا الموقف يوازى حجم تهديد دولة بحجم مصر والسودان! الخطة ليست إفناء مصر ولكن تركيعها للدخول بالمنظومة الجديدة للقرن٢١، فمازلت مؤمنا بأن كل ما يفور بالعالم الآن، مجرد تمهيدات لموجات تغيير قادمة، حتما تتغير فيها تركيبة المكونات لما نعرفه بالعالم الآن، والجغرافيا جزء من منظومة التغيير ولكن بهدوء ومُنفذين مأجورين.

التزام مصر سياسة المفاوضات والتصعيد الدولى السلمى والمحاولات الجادة لتجنب الحرب، ليس تخاذلا أو افتقارا لشرعية الدفاع أو قصور إعداد! ولكنه تدبر حكيم جدا لحفظ تنمية بلد وموقع وإمكانيات نجحت معه فى فرض مقعدها على مائدة الكبار، بعد إفسادها لمخطط الربيع العربي، لإهلاك دول المنطقة، لإعادة الإعمار بأسس جديدة بموازين وتقسيمات القوة الدولية، والنهضة الجديدة للشركات العالمية فى السلاح والتعمير والطاقة والاتصالات، لبقية القرن21 ! فنجدها تضرب بسهمها لإعمار غزة والعراق وسوريا وليبيا، وعليه كان التهديد بتعجيز وجودها وتقويض سودانها، هو ثمن نهضتها وجدارتها بقيادة القارة السمراء.

الرؤية المجمعة للتغيير الجديد قد يكون من ضروب الخيال! فماذا لو استكملت مؤامرة سد النهضة، واستُبدلت مصر بليبيا كباب شمالى لأفريقيا بعد تفصيلها من جديد، وكسر شوكة مصر ليس فقط عسكريا، ولكن تركيع الباقى الصالح منها للدائنين، وإعادة تقسيم النفوذ الاقتصادى الأفريقى بين الصامتين عمدا الآن؟

المشكلة الآن لم تعد فى فوز أى من العنترين! ولكن أن بنى عبس كلها معرضة للاجتياح بهدوء وستنقلب لحظة قرار الحرب لحصان طروادة، لمن عرف كيف يفض البيت من داخله، فيزيد توغلا بالأوصال!

جزء كبير من الشعب يتحمس لضرب السد وتأديب (شخص)، ويتجاهل درس (رمى إسرائيل للبحر)، وتحركات تمت أثمرت هزيمة 67، بكل تداعياتها الغائر عمقها حتى فترة قريبة. قرار ضرب سد النهضة بمثابة إعلان حرب على قمة جبل جليد مخفى (قد يكون ود تركيا وسعى قطر، تمهيدات لأدوار مرسومة قادمة)، ولكن بجميع الحالات فهذه الحرب، حرب وجود لا حدود! تأثيرها يفوق التصور المتعامى عنه إعلامنا العتيد، وصُناع وعينا الجمعى الأعزاء! فسُحب تخدير الشعب بالميديا والأزمات المفتعلة وتهوين المشكلة ثم تصعيدها، جعلها مثل كورونا .. أغلبنا مصابون بها ونكمل للقمة العيش!

قد تكون مصر أدارت ملف سد النهضة لعهود بصورة تعشمت فى الأخوة الأفريقية أو ثقة بكيانها كأمر مفروغ منه عالميا، أو بتقاذف الملف بين وزارات متعاقبة أو بعدم إدارة الأزمة مبكرا بوعى مكافئ لحجم كارثة تهديد الوجود! كلها أسباب لا طائل من مناقشتها الآن أو الملوم فيها!

العبرة بمن سيفتح فكه أولا باختبار العنترة؟

الردع؛ هو تفاعل خصمين يمتلكان قدرات متكافئة نسبيا، ولكل طرف إيذاء الآخر بذات المستوي، ولكنهما يحاولان التعقل بحسابات الخسارة والمكسب، ليتجنب كل طرف الحرب المتوقعة، بالمحافظة على الاستعدادات فى حالة تأهب، بصورة تقنع الآخر بأن تكلفة أى هجوم ستكون أكبر من أى مكسب يهدفه.

تطبيق هذا المفهوم بواقع عنتر سد النهضة غير موضوعي! فالتفوق العسكرى المصرى أضعاف التجييش الإثيوبي، وكذلك حجم التنمية والاستثمارات والفرص المستقبلية لمصر، تتخطى الوجود الإثيوبي! المشكلة ذكاء مُحرك العرائس الأخطبوطى لاختيار الأداة المكافئة لتطور مصر بهذه الصورة! سد النهضة رمز متطور لحصان طروادة لاختراق الوجود المصرى بجغرافية العالم الجديد، وبالتالى صناعة التاريخ الجديد. أما السودان.. فلابد من أضحية فداء العهد الجديد.

الصورة الآن تتضح شيئا فشيئا، بأن السيناريو القادم أعمق من تغيير نظام إثيوبيا أو التلويح بضرب السد! فقد تكون بنى عبس ذاتها مستهدف إعادة ترسيم حدودها، وهى فرصة ذهبية أمام العديد من القادرين على تغريق المركب ثم انتشال حطامها لبيعه خردة أو قطع غيار.

هل من عاقل ينظم الشارع ويديره لتوعيته بجدية الكارثة، تحسبا للتداعيات؟

هل من مسئول يدرك حجم المسؤولية ويبصر الشعب باستعدادات وتداعيات قرار الحرب وتأهبه لمعايشتها؟

ولكن مرة أخرى، يا عنتر.. كيف أصبحت عنترا؟

* محامى وكاتب مصرى

‏bakriway@gmail.com