مما لا شك فيه أن انتشار وباء فيروس كورونا أدى إلى حدوث أزمة اقتصادية كبيرة فى عدد من الأنشطة والقطاعات الاقتصادية، مثل قطاع السياحة والنقل والطيران وغيرها من القطاعات الأخرى التى تأثرت بصورة سلبية من جراء هذا الوباء.
ولا جدال أن هناك قطاعات اقتصادية أخرى ازداد رواجها واستفادت من الأزمة وحققت معدلات ربحية لم تكن تحققها قبل الأزمة، على سبيل المثال قطاعات صناعات المطهرات والمعقمات وشركات الأدوية والصيدليات.
وفى نطاق الأنشطة التى تأثرت سلباً من جراء انتشار فيروس كورونا وكرد فعل للخسائر التى منيت بها تلك الأنشطة، وفى محاولة لوقف نزيف تلك الخسائر اتخذت بعض من الشركات قرارات اختلفت فى حدتها ولكنها جميعًا أثرت على دخول العاملين بها.
فبعض الشركات اتخذت إجراءات أشد قسوة بأن أنهت عقود العاملين لديها، أخرى أصدرت قرارات بتخفيض أجور بعض العاملين لديها على الرغم من استمرار نشاطها ولو جزئياً، وشركات أجبرت العاملين لديها على الحصول على إجازة طويلة غير مدفوعة الأجر.
وإزاء كل هذه القرارات على اختلاف حدتها وقسوتها يثور التساؤل عن مدى قانونيتها، وذلك ما نحاول الإجابة عليه فى ضوء أحكام قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 الخاضع له القطاع الخاص، ولكن للإجابة على ذلك التساؤل يجدر بنا أن نلقى النظر على عدد من النظريات القانونية التى تمهد لوضع إجابة عن التساؤل المثار، وهو مدى قانونية ما اتخذته الشركات من إجراءات حيال العاملين لديها على النحو المبين سلفاً.
تستدعى الإجابة على هذا التساؤل إلقاء النظر على نظرية القوة القاهرة وما ترتبه من استحالة تنفيذ الالتزامات بين أطراف العقد، وكذلك نظرية وقف العقد وما ترتبه من إرجاء تنفيذ الالتزامات بين طرفى العقد بصورة مؤقتة. فإلقاء النظر على هاتين النظريتين فى ضوء أحكام قانون العمل ضرورى ومهم لوضع إجابات على التساؤلات المثارة.
أما بالنسبة لنظرية القوة القاهرة فإنه طبقاً لنص المادة 159 من القانون المدنى وما استقر قضاء محكمة النقض بصددها، فإنه إذا انقضى التزام أحد المتعاقدين فى العقود الملزمة للجانبين بسبب استحالة تنفيذه فإنه يؤدى إلى انقضاء الالتزام المقابل لتخلف سببه. ويكون تنفيذ الالتزام مستحيلاً متى كان عدم تنفيذه راجعاً إلى قوة قاهرة أو حادث فجائى يحول دون تنفيذ أحد الالتزامات الناشئة عن العقد.
وعقد العمل – طبقاً للمبادئ العامة – ينفسخ إذا امتنع أحد العاقدين بسبب القوة القاهرة عن تنفيذ التزاماته الناشئة عنه، ويقع الانفساخ من تلقاء نفسه قبل انتهاء مدة العقد إذا كان محدد المدة، ودون مراعاة لمهلة إذا كان العقد غير محدد المدة، سواء طرأت القوة القاهرة فى جانب العامل فمنعته من تنفيذ العمل، أو فى جانب صاحب العمل فمنعته من تقديم الأجر. ولا يعتبر قوة قاهرة إلا أمر غير ممكن توقعه ولا مقدور دفعه يؤدى إلى استحالة تنفيذ الالتزام لا مجرد صعوبة تنفيذه أو زيادة كلفته.
ووفقاً لما هو مقرر قانوناً ومستقر عليه فقهاً وقضاءً فإنه يجب لانفساخ عقد العمل أن يترتب على القوة القاهرة استحالة نهائية لتنفيذ التزام ناشئ عنه، ذلك أن الاستحالة المؤقتة التى تلحقه لا تؤدى إلا إلى مجرد وقف العقد، فلا ينفسخ عقد العمل بالاستحالة المؤقتة بل يقف تنفيذه حتى تزول هذه الاستحالة وذلك ما يسمى نظرية وقف العقد، إذ تقوم الفكرة الرئيسية فى نظرية الوقف على أن استحالة التنفيذ المؤقتة التى ترجع إلى قوة قاهرة ليس لها أثر على تنفيذ العقد سوى أثر مرجئ، على عكس الاستحالة النهائية التى تؤدى إلى انقضائه.
فيترتب على الاستحالة النهائية الراجعة إلى القوة القاهرة انقضاء عقد العمل، سواء كان محدد المدة أو غير محدد المدة، بينما يترتب على الاستحالة المؤقتة الراجعة إلى القوة القاهرة عدم تنفيذه فى فترة الاستحالة، ومن ناحية أخرى عودة تنفيذه حين زوال المانع منه.
فالأصل طبقاً للمبادئ العامة المتقدم ذكرها أنه إذا تعذر على العامل فى فترة معينة تقديم عمله إلى صاحب العمل بسبب راجع إلى قوة قاهرة أدت إلى استحالة تنفيذ الالتزامات العقدية بصفة مؤقتة أعفى صاحب العمل من دفع الأجر عن تلك الفترة سواء تحققت القوة القاهرة فى جانب العامل فمنعته من تنفيذ العمل أو فى جانب صاحب العمل فمنعته من تقديم الأجر.
فخلاصة ما تقدم من مبادئ عامة فإنه إذا استحال تنفيذ العقد بصورة نهائية بسبب القوة القاهرة فإنه ينتهى العقد. أما إذا كانت الاستحالة مؤقتة فإن تنفيذ العقد يوقف لحين زوال المانع منه. ولكن إذا كانت المبادئ العامة على النحو المذكور هى مرجع التمييز فى نتيجة القوة القاهرة بين الانفساخ والوقف، فإن لعقد العمل خصوصية تؤثر على ما تقضى به القواعد العامة من آثار ترتبها على وقف العقد نتيجة القوة القاهرة، فتغير من تلك الآثار لتحقق أهدافاً أخرى يرى المشرع فى نطاق علاقات العمل أنها الأولى بالرعاية، ولعل أهم تلك الأهداف هو تحقيق الاستقرار فى علاقة العمل لما فيه من مزية لصاحب العمل بحفظ عماله المهرة له، ومن فائدة على الخصوص للعامل بالإبقاء على مورد رزقه. كما أن طابع الأجر وصلته بمعيشة العامل يعتبر أساس ما جاءت به نصوص التشريع من استثناءات على ما تمليه المبادئ العامة خاصاً بأثر الوقف فى حقوق العامل، ونجد ذلك جلياً فيما قرره قانون العمل استثناءً من المبادئ العامة الخاصة بأثر الوقف بما نص عليه بالمادة 41 من قانون العمل، والتى جرى نصها على النحو الآتي:
إذا حضر العامل إلى مقر عمله فى الوقت المحدد، وكان مستعداً لمباشرة عمله وحالت دون ذلك أسباب ترجع إلى صاحب العمل، اعتبر كأنه أدى العمل فعلاً واستحق أجره كاملاً.
أما إذا حضر وحالت بينه وبين مباشرة عمله أسباب قهرية خارجة عن إرادة صاحب العمل استحق نصف أجره.
وبعد استعراض هذه المبادئ القانونية فأول ما يتبادر إلى أذهاننا هو التساؤل عما إذا كان انتشار فيروس كورونا فى مصر أدى إلى توقف أنشطة القطاع الخاص، وإذا كان انتشار الفيروس أدى إلى توقف، فهل هذا التوقف نهائياً استحال معه تنفيذ التزامات عقد العمل من جانب طرفيه استحالة نهائية أم مؤقتة بحيث استحال على طرفى عقد العمل تنفيذ التزاماتهم بصورة مؤقتة؟ وهل التدابير التى اتخذتها الحكومة المصرية أدت إلى توقف تلك الأنشطة من عدمه؟
فلا شك أن هناك بعض الأنشطة قد توقفت بسبب القرارات التى اتخذتها الحكومة ضمن حزمة التدابير الاحترازية لمواجهة انتشار الفيروس نذكر منها قرار تعليق رحلات الطيران لفترة مؤقتة. فلا شك أن كل الأنشطة المرتبطة بتسيير رحلات الطيران ستتوقف خلال هذه الفترة المؤقتة، ومن ثم فإن هذه الأنشطة لن ينطبق بشأنها أحكام القوة القاهرة وإنما سينطبق بشأنها أحكام وقف العقد بحيث يقف تنفيذ عقود العمل مؤقتاً خلال الفترة التى حددتها الحكومة ويترتب على ذلك – وإعمالاً لنص الفقرة الثانية من المادة 41 من قانون العمل- أن يقف التزام العامل بتقديم عمله وفى المقابل لا يكون صاحب العمل ملتزماً بسداد كامل أجر العامل خلال فترة التوقف وإنما يكون ملتزماً فقط بسداد نصف أجر العامل خلال فترة التوقف، وفور انتهاء فترة التوقف تعود الحال إلى ما كانت عليه قبل التوقف فينفذ العامل التزامه بتقديم عمله ويكون صاحب العمل ملتزماً بكامل أجره.
أما الأنشطة التى لم يصدر بشأنها أى قرار من الحكومة ولم يؤد انتشار الفيروس إلى توقف نشاطها، فإن عقد العمل يكون نافذاً بين طرفيه ويستحيل عليهما التمسك بأحكام القوة القاهرة أو وقف العقد ويكون كل طرف من أطرافه ملزماً بأداء التزاماته. ومن خلال متابعتنا لقرارات الحكومة المصرية فإنه لم تصدر أى قرارات تقضى بوقف أنشطة القطاع الخاص بل إن الحكومة قد استثنت وسائل نقل العمال من حظر التجوال ومن ثم فإن شركات القطاع الخاص حتى تاريخ كتابة هذه السطور لم يصدر بشأنها أى قرار حكومى يمكن اعتباره من قبيل القوة القاهرة الذى يؤدى إلى استحالة التنفيذ سواء بصورة نهائية أو مؤقتة.
وما دام لم تتوافر القوة القاهرة التى تؤدى إلى استحالة تنفيذ التزامات عقد العمل نهائياً فإن كل القرارات الصادرة عن شركات القطاع الخاص بإنهاء علاقة العمل استناداً إلى انتشار وباء الكورونا جاءت مخالفة للقانون مما يحق معه للعاملين ممن انتهت علاقة عملهم، المطالبة بالتعويض.
أما بالنسبة لمسألة تخفيض الأجر، كما بينا سلفاً، فإن الشركات التى تم وقف نشاطها مؤقتاً بسبب انتشار وباء الكورونا فإنه يحق لها تخفيض الأجر للنصف عملاً بنص المادة 41 من قانون العمل، ولكن إذا كانت الشركات لم توقف نشاطها فإنه لا يحق لها تخفيض الأجر بأى حال من الأحوال.
أما مسألة منح العاملين إجازة بدون أجر من جانب بعض الشركات، فإذا كانت هذه الشركات من ضمن الشركات التى تم وقف نشاطها مؤقتاً فإنها ستكون ملزمة بسداد نصف الأجر للعاملين. وإذا لم تكن هذه الشركات من الشركات التى تم وقف نشاطها فإنه لا يحق لها اتخاذ أى إجراء بإرادتها المنفردة ينقص من أجور العاملين لما يتمتع به أجر العاملين من حماية قانونية تفرضها نصوص قانون العمل الواجب التطبيق.
لكن قد يثور السؤال عما إذا كانت الخسائر التى منيت بها الشركات بسبب انتشار فيروس الكورونا وما قد يترتب عليها من توافر ضرورة اقتصادية، من شأنها أن تمنح الحق لأصحاب الأعمال لإنهاء عقود عمل بعض العاملين لتقليل تكاليف المشاريع للحد من الخسائر والمحافظة على بقاء المشروع فى ظل هذه الظروف.
والإجابة على هذا التساؤل نجدها فى المادة 196 من قانون العمل التى جرى نصها على النحو التالي: “يكون لصاحب العمل، لضرورات اقتصادية، حق الإغلاق الكلى أو الجزئى للمنشأة أو تقليص حجمها أو نشاطها بما قد يمس حجم العمالة بها وذلك فى الأوضاع وبالشروط والإجراءات المنصوص عليها فى هذا القانون”.
فوفقاً لنص المادة المذكورة فقد أعطى المشرع لصاحب العمل الحق فى الإغلاق الكلى أو الجزئى للمنشأة أو تقليص حجمها أو نشاطها بما قد يمس حجم العمالة بها ولكن هذا الحق وفقاً لنص المادة 197 من قانون العمل مشروط بأن يتقدم صاحب العمل بطلب إغلاق المنشأة أو تقليص حجمها أو نشاطها إلى اللجنة المشكلة لهذا الغرض وأن يصدر قرار من هذه اللجنة بالموافقة على الطلب المقدم من صاحب العمل.
وفى حال صدور قرار بالموافقة أجاز القانون لصاحب العمل بدلاً من استخدام حقه فى إنهاء عقد العمل أن يعدل من شروط العقد بصفة مؤقتة بتكليف العامل بعمل غير متفق عليه أو بأن ينقص أجر العامل بما لا يقل عن الحد الأدنى للأجور. ولكن القانون رتب للعامل الذى يتم إنهاء عقد عمله لأسباب اقتصادية بناءً على موافقة اللجنة المختصة مكافأة تعادل الأجر الشامل لشهر عن كل سنة من السنوات الخمس الأولى من سنوات الخدمة وشهر ونصف عن كل سنة تجاوز ذلك.
وترتيباً على ما سبق فإنه لا يحق لصاحب العمل إنهاء عقود العمل لأسباب أو ضرورات اقتصادية من تلقاء نفسه وبإرادته المنفردة دون استصدار قرار بالموافقة على ذلك من اللجنة المختصة بوزارة القوى العاملة.
وإزاء ما قد ترتبه أزمة انتشار الفيروس على أصحاب العمل من خسائر جسيمة، فإنه تجدر الإشارة إلى حق أصحاب الأعمال فى اللجوء إلى طلب صرف إعانات من صندوق إعانات الطوارئ للعمال المنشأ بمقتضى القانون رقم 156 لسنة 2002 وفقاً للضوابط المقررة.
*شريك مكتب سرى الدين وشركاه