فجأة اندلعت الثورة في أحد أقاليم مصر المحروسة خلال الأيام الماضية، لا بسبب ارتفاع ما للأسعار- وهو ما يكاد يحدث يومياً،- ولا لانتشار الفقر والعوز، وهو ما لا يقدر أحد على انكاره رغم التصريحات الوردية لصحف الحكومة الرسمية، أو لعلة في حاكم أو لجور من محكوم، وهى الأمور التى جبل الناس عليها، وإنما خرجت محافظة بورسعيد عن بكرة أبيها شعباً ومجلساً محليا ونوابا بمجلس الشعب ومحافظاً، كي تستنكر الإساءة البالغة، التي وجهها لهم- لا نعرف لمن على وجه التحديد-، فيلم «أبوالعربي»- أحد أفلام موجة «العبط»-، الذي اتضح من أحداث بورسعيد وغيرها من الأحداث، أن «العبط» ليس سائداً فقط على مستوى السينما، وإنما على كافة المستويات.
ولم تهدأ حدة الانتفاضة، قبل أن يتخذ المحافظ قراره التاريخي، بوقف عرض الفيلم في المحافظة، بعدما تبين له مدى إساءته لأحد مقدسات المدينة التاريخية، متمثلة فى شخصية أبوالعربي!.
ومن الغرائب التي سيذكرها التاريخ أيضاً للسيد المحافظ، أنه قبل هذه الهوجة بساعات، كان قد أقام احتفالاً كبيراً للفيلم والعاملين فيه، بالغ خلاله بالاحتفاء بهم وسط حشد كبير من أبناء المدينة، نقلت وقائعه الصحف، بل ونشرت بعضها صوراً لكرنفال السيد المحافظ، وهو يتوسط بطل الفيلم ومخرجه على مائدة وليمة أعدها خصيصا، تقديرا للدور الهام، الذي لعبه الفيلم وبطله فى تمجيد الشعب البورسعيدى الأصيل!.
ولسنا في حاجة إلى بذل كثير من الجهد، في التعرف على أسباب تبدل الموقف، من الاحتفاء إلى الغضب، أو بمعنى أدق تصنع الغضب، ومن التكريم إلى التجريم. إذ لابد أنها نفس الحكاية المتكررة القديمة، شخص ما يظهر، يطلق إشاعة أو رأياً ديماجوجياً أهوج، يزايد عليه الباقون واحداً تلو الآخر، سواء كانوا مسئولين أو غير مسئولين، من السلطة أو من المعارضة، من الصفوة أو من الرعاع، لتبدأ موجة الإقصاء أو التكفير أو التأثيم.
يفرغ الجميع شحنة الغضب، وسط ردود أفعال لا إرادية هستيريا، تتحرك الدولة أو من يمثلها في صرامة، وتتخذ قراراً حاسماً باتا بالمصادرة أو المنع، ظاهره الحفاظ على القيم والأخلاق والمبادئ، وباطنه الحفاظ على الأمن العام.\
تختلف الواقعة وتتكرر الحدوتة بكافة تفاصيلها، من رواية وليمة لأعشاب البحر، إلى رواية وفاء قسطنطين، وليس انتهاءً بموقعة أبوالعربى، ولا مانع من أن يتخلل ذلك بعض التنويعات على نفس المقام، كما حدث مع فيلمي الأفوكاتو وبحب السيما.
والأمر المثير للغيظ، أن الدولة التى تجاري كل هذا العبط في مواقع فاصلة، يجدر بها فيها أن تظهر صلادتها وإرادتها ورغبتها في الإصلاح، والحفاظ على حق التعبير وإبداء الرأى الذي يكفله الدستور، هي نفسها التي تكشر عن أنيابها بلا داع في كثير من الأحيان، في مواجهة فرداً هنا أو هناك، تجاوز فى سقف طموحاته، أو هيئ لها أنه قد تجاوز، فتصادر عليه أو تصادره هو بأكمله، فتصنع منه بطلاً أو منافساً لها من ورق إن لم يكن من السراب.
إنه حقاً عصر لعبط، أعتقد أننا لا نمتلك رفاهية الانيساق له وترسيخه، وإلا أصابنا الهطل، وهو حالة أخطر، تضعنا على أعتاب الجنون أو التخلف، وكلاهما يؤدى للاندثار، حتى ولو بقينا هائمين على وجه هذه الحياة.