في عرض متحفي يليق بحضارة الإسكندرية الزاخرة بالآثار الغارقة داخل المتحف اليوناني الروماني، وتحديدًا بالطابق الأول الذي يعلو الميزانين من داخل صالة الصناعة والتجارة، نجد على الجهة اليسرى تصميمًا خشبيًّا لسفينة تجارية أنشئت كنموذج يستحضر شكل السفن اليونانية التي كانت تغادر بحر الإسكندرية متجهة لبلاد أوروبا، لتحوي الكثير من الأمفورات الأثرية- القلال الفخارية- التي كانت تُستخدم لشحن المواد الغذائية في تبادل تجاري بنظام “المقايضة”، يحوطها الكثير من زائري المتحف؛ في محاولة للتعرف على تلك الآثار التي احتفظت بشكلها دون تأثر بمياه البحر التي اعتادت ظلامه وسكونه لسنوات طويلة.
كانت أداة المقايضة للتبادل التجاري من الإسكندرية لدول أوروبا
التقت “المال”، أمين عام المتحف اليوناني الروماني رشا عبد الوهاب، في جولة إرشادية أظهرت شكل الحياة السكندرية التجارية بالحقبة اليونانية والرومانية، استكمالًا لجولة “المال” السابقة داخل الصرح الحضاري العريق، والذي يروي لنا أجزاء مختلفة من الحياة السكندرية القديمة،
حيث أكدت أن شكل الحياة التجارية قديمًا بالثغر كانت تتمثل في الأجورا- السوق التجارية- والتي تماثل مركز المدينة “سيتي سنتر” بحسب وصفها، بالحقبة الزمنية اليونانية.
«الأجورا» سوق سكندرية راقية للتجارة والملتقى الفكري
وأضافت “عبد الوهاب” أن “الأجورا” كانت مُقسمة لعدة أماكن؛ أبرزها وجود مكان للتجارة، ومكان للعبادة، ومكان للمُلتقى الفكري والشعري أو لعرض الأفكار وطرحها أمام زائري السوق للمناقشة، وهو المكان الذي كان يحوي العديد من “الأمفورات”، وهي القلال والأواني الفخارية والتي كانت تُستخدم لأغراض كثيرة، لكن أبرز تلك الاستخدامات وأكثرها شيوعًا هو التبادل التجاري؛ لعدم وجود العملة المتداولة للتجارة حينئذ.
وبحسب أمين عام المتحف، فإن نظام المقايضة باستخدام الأمفورات كان هو أسلوب التجارة بالحقبة اليونانية والرومانية، حيث تنوعت أشكال الأمفورات بحسب ما تحويه من مواد غذائية؛ وذلك لحفظ تلك المواد دون ضرر، مشيرة إلى أن هناك أمفورات بها فتحات للتهوية وكانت تستخدم لتربية الطيور بداخلها، بالإضافة إلى الأمفورات المنتفخة الشكل، والتي كانت تُستخدم لحفظ السوائل، سواء الزيوت أو النبيذ.
وتابعت “عبد الوهاب” أن الأمفورات الطويلة والرفيعة التي تشبه القلم كانت تُستخدم في نقل وتخزين الأنشوجة والسردين المملّح، مؤكدة أنه وقت اكتشافها تم رصد روائح للزيت وبقايا السمك بداخلها، وكانت تتميز بتصميمها الضيق من الأسفل لمنع دخول الهواء لحفظ الأسماك.
وظهرت السفينة التي التقطت “المال” صورة لها داخل العرض المتحفي، في تصميم روماني متأخر، تحوي العديد من الأمفورات وأدوات البحارة المُسخدمة في الطعام، والتي ترجع للعصرين اليوناني والروماني، بحسب أمين المتحف، مضيفة أنه تم عرض بعض الأمفورات رمزًا لطبيعة وشكل التجارة في ذلك العصر.
أمين عام المتحف: كلما زاد حرق الفخار كلما زادت صلابته أسفل مياه البحر
وقالت “عبد الوهاب” إنه تم العثور على الأمفورات في قاع البحر بكامل هيئتها دون تفتيت أو تآكل، مُرجعة ذلك لأساليب اليونانين والرومانيين في صناعتها التي كانت تعتمد على حرق الفخار، قائلة: “كلما زاد الحرق زادت صلابة الأمفورات، لذلك تحول إلى مادة صلبة أكثر أسفل المياه محتفظًا بخواصه”.
وأشارت أمين المتحف إلى أن اليونانيين والرومانيين كانوا يقومون بتنقية الطين المستخدم في صناعة الفخار، وكان يمر بعدة مراحل للتنقية من الشوائب قبل عملية الحرق،
مضيفة أن بعض الأمفورات بالعرض المتحفي ظهرت بشكل يعلو سطحها “حراشيف”، والتي تُعد أبرز شواهد بأن تلك الآثار كانت غارقة.
وأشارت إلى أنه تم تنظيفها وترميمها دون إزالة الحراشيف التي تعلو سطحها والتي تكونت بفعل الزمن أسفل قاع البحر، حتى أصبحت جزءًا منها، فإذا تمت إزالتها فمن المرجح انكسار الأمفورات، وذلك على غرار مستعمرات الشعاب المرجانية على أسطح المراكب الغارقة.
قاع البحر حافظ على آلاف الأمفورات “القلال الفخارية” الغارقة بسبب قلة الأكسجين
وإختتمت أمين المتحف حديثها حول الأمفورات الآثرية بالتطرق إلى طبيعة الآثار الغارقة، مؤكدة أن الآثار التي تتواجد عادة داخل المراكب الغارقة تُعد من أكثر الآثار التي يحافظ البحر عليها، مُرجعة ذلك إلى قلة نسبة الأكسجين بأعماق البحر؛ وذلك لأن الأكسجين يُفسد الأثر ويتفاعل مع خواصه ويُسبب وجود فطريات عليه، خاصة إذا كان عضويًّا، مؤكدة أنه كلما قلّت نسبة الأكسجين زادت فرصة بقاء الأثر دون أضرار.
وعلى جانب آخر واستكمالًا لتواجد مادة الفخار بالعروض المتحفية داخل المتحف اليوناني الروماني، ووفقًا لوزارة الآثار كان قد تم العثور أيضًا على خبيئة تحتوي على مئات الأواني الفخارية، والتي ترجع إلى فترات زمنية متفاوتة منذ بداية العصرين اليوناني والروماني، مرورًا بالعصر القبطي، وانتهاءً بالعصر الإسلامي، وذلك أثناء أعمال الحفر في المنطقة التي تضم الحديقة المتحفية الداخلية في المخطط القديم للمتحف اليوناني الروماني بمدينة الإسكندرية، والمعروفة باسم “الباثيو”، ضمن أعمال المشروع القومي لتطوير وترميم المتحف.
وفور العثور على الخبيئة توجهت لجنة من منطقة آثار الإسكندرية للمعاينة المبدئية للخبيئة وتأمين محتوياتها، لحين توثيقها وحفظها بالشكل اللائق في المخازن المتحفية بالاسكندرية، والتي أظهرت اعتماد تلك الحقبة الزمنية على مادة الفخار بكل أشكال الحياة اليومية حينذاك.