لا تنشأ العلاقات السياسية، ولا أن تتطور بين الدول من فراغ، أكثر ما تنطبق عن غيرها.. فيما بين مصر وتركيا، لتسطر تاريخاً مؤلماً وقاسياً مملوء بالدماء إبان أسوأ حقبة استعمارية عرفها المصريون منذ سياسات القرن 16 التى شهدت انحسار ازدهارهم عن وسطية موقعهم التجارى بامتداد الستار الإسلامى «بين المحيطين».. فى أعقاب اختراع البوصلة البحرية 1492التى تحولت بطريق التجارة العالمى عنها، إلى رأس الرجاء الصالح، بالتوازى مع بروز «الطفيلة» الحضارية للدولة العثمانية (الطورانية التركية) قبل غزوها مصر «المملوكية» 1517، لحقبة مظلمة امتدت لنحو خمسة قرون.. تراوحت مفرداتها ما بين الاستعلاء والعداء والمصاهرة، انعكست آثارها السلبية لما قبل انتصار الجيش المصرى على العثمانيين ثلاثينيات القرن 19 إلى ما بعد سقوط «دولة الخلافة» 1924، وإلى قيام الثورة المصرية 1952 باستئصال نخبهم الحاكمة، لم يحل دون تجدد خلافاتهم – كطرفى خصومة – امتدت بشكل أو آخر إلى مطلع الألف الثالثة الميلادية، حيث انحصرت خصوماتهما – القاهرة وأنقرة – داخل إشكاليات محددة، لم تقتصر على رؤيتهما المختلفة لخريطة النفوذ الإقليمى، بل فى التصدى المصرى أيضًا لدعوات «أيديولوجية» تركية، أبرزها جماعة الإخوان المسلمين، ضمن تحالف بين مصر ودول «الرباعى العربى» لمكافحة الإرهاب، ميدانيا وإعلاميا، مروراً بإشكاليات قانونية بشأن التنقيب عن الطاقة فى شرق البحر المتوسط، وليس انتهاء بإشكالية عسكرية مسرحها ليبيا، الجارة الغربية المتاخمة لمصر، ما يعبر عن تصارع الإرادات بينهما، تحول بين مصداقية دعوات تركية أخيرة لاستمالة مصر إلى جانبها، إلا حال انصياع أنقرة لتحركات إقليمية دولية تعمل لغير صالحها، قد تدفعها اضطراراً إلى التناغم مع مناخ مناسب لعلاقات قائمة على الالتزام بالقواعد الدولية.. خاصة فيما يتصل بتصحيح توجهاتها إزاء الحالة الليبية.. وعلى صعيد شرق البحر المتوسط، كأهم ملفين فى الإقليم يحتاجان لمراجعات فعلية.. سوف تعود حال مصداقيتها.. بمكاسب حقيقية على دول المنطقة وشعوبها واقتصاداتها، إلا أن النخب الحاكمة المأزومة فى تركيا.. تسعى إلى تصدير حالات من الصراع الخارجى، للتغطية على مشاكلها الداخلية، وتحت دعاوى من طموحات جيوسياسية لاستعادة النفوذ لما تسمى «العثمانية الجديدة»، وفى إطار من التنافس الشعبوى للقوميات غير العربيات، الطورانية والفارسية والعبرانية، التى تحتل بالفعل أجزاء من بلدان عربية لا يجديها نفعًا مواجهتها، سواء بالحرب أو التطبيع، إلا أن ينخر السوس فى كراسى الحكم.. كما هو جار حثيثاً فى النظام التركى والإيرانى والإسرائيلى.. التى تنظر للعرب – لا تزال – نظرة دونية، من المستحيل إجراء تقارب عربى معها فى ظل عقلية شعبوية استعلائية استعدائية لا تؤمن بحق الآخر العربى الذى لا يعمل ما بوسعه لإحقاقه، ربما عملاً منهم بالحكمة الصينية فى الانتظار عند نهاية المصب كى تأتيهم جثث أعدائهم فرادى، متناسين استحالة تطبيقها على من لا يساعد نفسه، مستندين فى ذلك بصفة خاصة -ربما – إلى انعكاسات سلبية لعنجهية القيادة التركية (المعزولة) التى تدعو إلى «تمزيق الخرائط» التى ترسمها القوى الإمبريالية من أجل حصر تركيا فى شريط جغرافى ضيق قرب حدودها، معتبرة أن موقف كل من وشنطن وموسكو وبروكسل إلى جانب خصومها فى «حكم العدم »، ولتجد نفسها – برأى كثير من المراقبين – وحيدة فى مأزق.. بمواجهة دول الإقليم، والاتحاد الأوروبى، والولايات المتحدة، وربما روسيا أيضًا.. التى ستجرى قريبًا مناورات بالذخيرة الحية قبالة قبرص، ناهيك عن القمة الأوروبية المزمع اتخاذها لموقف حازم باستخدام «العصا» مع تركيا للكف عن مغامراتها ضد أعضاء فى الاتحاد الأوروبى، ما قد يهدد بمخاطر نشوب صراع قد يتجاوز الكلمات، خاصة أن لغة الحوار لا يمكن أن تبدأ إلا إذا توقفت أنقرة عن الاستفزازات.. واتخذت خطوات عملية لتهدئة التوتر.
أما على صعيد السياسة الداخلية التركية، باعتبارها عاملاً محورياً فى تطويع الرئاسية التركية التى تبدو واهنة إلى الحد الذى لم تعد بمفردها – كما كانت – المتحدثة عن السياسة الخارجية التركية، فقد فتحت المعارضة النار عليها، معتبرة «تصريحات الرئيس».. «كلام إلهاء» – تدفع تركيا ثمنه، وتبقى فى عزلة وقطيعة مع جيرانها ومحيطها، متسائلة – المعارضة – عن أسباب القطيعة مع مصر، التى هى أهم دولة بالنسبة لتركيا فى البحر المتوسط، وترتبط معها بعلاقات تاريخية.. يضحى بها «الرئيس» من أجل امتطائه تنظيم «الإخوان المسلمين».. فمن هم هؤلاء؟ وما علاقاتهم بالسياسة؟.
ويستطرد رموز المعارضة التركية – ورموزها – فى القول إن « تركيا فشلت دبلوماسيا اليوم، وستفشل غدًا ما بقيت فى يد هذه الحكومة.. ذلك فى الوقت الذى صنعت حولها بحيرة من الأعداء وباتت فى عزلة» حتى إن «الدول التى تتعارض مصالحها.. تجمعت بعضها مع بعض لتقف ضد تركيا»، وإذ ليس أدل على ذلك من كون «دبلوماسية الحكومة ضعيفة».. من قيامها فحسب بملء الفراغ الناشئ عن الافتقار لدبلوماسية قوية».. يعجز ربانها عن قيادتها وسط بحيرة من العزلة.