ِفى الأسواق العالمية، يسعى المحللون ببنوك الاستثمار دائماً، للبحث عن قصص جديدة تصلح للبيع للمستثمرين، البعض يشبههم بالباحثين عن اللؤلؤ والأحجار الكريمة، وسط بحار ومحيطات الأسهم وقطاعات الاقتصادين القديم والجديد المختلفة.
قد يكون الصيد مجرد جوهرة ثمينة، كسهم شركة صغيرة، يكشف أحدهم أنه يتم تداوله بقيمة منخفضة فى حين تنتظره فرص واعدة للنمو، فينبه عملاءه إليه، فيسير على دربهم الكثيرون، ليحصدوا أرباحاً وفيرة فى حالة صدق التوقعات، وقد تكون الغنيمة ماسة ثمينة، تتمثل فى قطاعا بأكمله، يرى المحترفون أنه سيقود الاقتصاد فى الفترة القادمة، فيجرون وراءهم الجميع.
وفى جميع الأحوال، قد يخسر البعض ويكسب البعض، إلا أن عملية تحديد الاتجاهات وقيادة السوق، تظل دور ومسئولية كوادر ومؤسسات محترفة.
أما فى البورصة المصرية.. فتكفى نظرة قصيرة على ما دار بها خلال الأسبوعين الماضيين، لنعى جيدا من يقود السوق وكيف وبأية وسيلة.
عدة أسهم انتابتها فجأة حمى الصعود، دون أية مقدمات أو أسباب منطقية، التبريرات ظهرت وتوالت بل وتشابهت فقط عقب تولد الشرارة الأولى للانطلاق.
معلومات، وأقول معلومات، لأنك لا تستطيع أن تقنع أحداً- سوى نفسك بالطبع- بانها مجرد شائعات، تتحدث فى أغلب الحالات عن عروض شراء لشركات بعينها.
وككرة الثلج، تتضخم الشائعة بمرور الوقت، حتى تصبح قصة كاملة الأركان متعددة التفاصيل، فيصير للعرض الوهمى جهة تقدمت به، وسعر معين للاستحواذ على حصة محددة، وتفاصيل مفاوضات، بل وعراقيل يجتازها المفاوضون، وأخد ورد، و… وبينما يتشكل جسد ورأس وأطراف الشائعة، يأخذ سعر السهم فى الارتفاع الجنوني، وتعجز أى محاولة عاقلة لتفنيد الشائعة عن إقناع حشود المستثمرين الطامعة المتطلعة، لاستغلال الفرصة وتحقيق المكاسب.
وتتكرر المأساة، حفنة صغيرة من المغامرين، تنجح فى خلق شائعة وتحقيق مكاسب رأسمالية مرتفعة على حساب غالبية من المستثمرين الطيبين- لن نقول السذج تأدباً- ومع ذلك، ورغم التكرار الممل للمأساة، فإنها تعود لتنتج من جديد، فيحاول الجميع استغلالها، ويظن كل منهم انه أذكى من الاخرين.. والأقدر على الفوز عندما تنزل كلمة النهاية مع تحول السعر إلى الهبوط السريع.
إن ما حدث خلال الأسبوعين الماضيين ليس جديداً، وإنما يمثل نمطاً يعاد إنتاجه بغزارة بالبورصة المصرية، منذ عودتها للنشاط فى أوائل التسعينيات، تختلف درجة تواتره باختلاف الظروف والسياق، فنلاحظ تصاعده مع ندرة البضاعة الجيدة والفرص الحقيقية للاستثمار، وتتراجع وتيرته ويكاد يتلاشى تقريباً مع وفرة ما يعتقد المستثمرون أنه أوراق مالية جديرة بالاهتمام، أو ظروف اقتصادية تشجع على الاستثمار.
وما أحمد «ملوخية» ذلك الرجل الذى أقدم فى جرأة غريبة قبل عدة أشهر على تقديم عرض وهمى باسم شركة سعودية لشراء شركة مصر بنى سويف للأسمت، سوى مجرد نموذج صارخ لسلوك مستثمرين بل وسماسرة، اعتادوا أن يجنوا أرباحاً واسعة من خلال مهارتهم فى ترويج الشائعات، لدرجة تدفع السوق بأكمله إلى مجاراتهم فى رفع سعر هذا السهم أو ذاك.
ولست من الساعين- كالأغلبية- إلى تبرئة ساحة الجميع، وحصر الذنب والمسئولية، فيما تقترفه حفنة مغرضة موتورة شريرة مأجورة إلى اخره من الصفات، ببساطة لأن مثل هذه المساعى الدبلوماسية، لا تصل بنا إلى توصيف حقيقى للمشكلة، ومن ثم تمنعنا من طرح حلول منطقية لظاهرة ملوخية وأعوانه، وهم كثيرون.
ولسوء الحظ، إن الاشكالية الحقيقية تتمثل فى أن الممارسات، التى شهدتها البورصة خلال السنوات الماضية، قد رسخت فى الأذهان منطق «ملوخية»- إن جاز التعبير- بل وجعلته بدرجاته المختلفة فى حكم العرف المشروع، لدى العديد من المتعاملين فى السوق.
وكما نعلم، فإن دور الأجهزة الرقابية فى هذه الحالة، التى يصل فيها احترام القوانين والنظم والتشريعات إلى حده الأدنى- بالمناسبة هى حالة لا تقتصر فى واقعنا على البورصة- يكاد يكون محدودا، لا لتقصير منها وهو أمر جائز، وانما لأسباب تتعلق بسيادة نمط ثقافى معرفى معادى للحدود، التى تضعها تلك القوانين، ويكاد يعتبرها قيدا غير مبرر ولا «مشروع» عبر إطلاق شائعات كاذبة، يعتبرها أصحابها «شطارة»، لا يقوى عليها سوى أمثالهم من ذوى المهارات الخاصة والذكاء الحاد!
إلا أن التوصيف السابق يدفع بنا- رغما عن نوايانا الطيبة وإرادتنا- إلى نقطة اللاحل، إذ أن الثقافة السائدة بين المتعاملين فى البورصة، هى فى نهاية الأمر، امتداد لتلك السائدة فى المجتمع، وهى ثقافة قد يحتاج تغييرها والتأثير والتبديل والتعديل فيها إلى أكثر من جيل.
إلا أننا وربما من أجل ذر بعض الرماد فى العيون، وحتى لا يتهمنا بالعجز أحد، ممن دأبوا على طرح الحلول لكافة المشكلات ليل نهار، دون أن يتغير شيء إلى الأفضل فى الواقع.. فإننا نطرح بعض الحلول متوسطة المدي، يمكن أن يكتب لها بعض النجاح قياسا على تجارب مشابهة فى نفس المجتمع، كالتجربة الناجحة لإدارة مترو الأنفاق فى تغيير سلوك المواطنين كلياً تحت الأرض وليس فوقها.
وهذا لن يتأتى فى البورصة سوى بأداتين رئيسيتين، أولاهما حملات التوعية، وهى مسئولية جميع العناصر المشكلة لنظام سوق رأس المال، وتتمثل فى جمعيات العاملين فى الأوراق المالية والجهات التنظيمية والرقابية، وثانيتهما تطبيقاً أشد صرامة للقوانين ومواثيق الشرف المهنية، بما يضمن ارتداع البعض، على وعسى أن تتحول البورصة إلى مترو آخر للأنفاق!