دعم السلام والتنمية
في النصف الثاني من العام الماضي، عاد الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الأنشطة الدبلوماسية “غير الافتراضية” بعد “الدبلوماسية السحابية” التي ميزت عامين ونصف من الجائحة.
وخلال الأشهر الأربعة الماضية وحدها، حضر شي قمة مجموعة الـ20 في بالي، واجتماع القادة الاقتصاديين لأبيك في بانكوك، والقمة الصينية العربية الأولى، وقمة الصين ودول مجلس التعاون الخليجي في الرياض.
وعلى هامش الفعاليات متعددة الأطراف، عقد شي أيضا اجتماعات ثنائية مع قادة من عشرات الدول، بما في ذلك فرنسا وهولندا وأستراليا وجمهورية كوريا واليابان وإندونيسيا والمملكة العربية السعودية ومصر والعراق.
وفي داخل البلاد، استضاف شي عديدا من القادة والشخصيات الأجنبية الرفيعة في بكين بعد المؤتمر الوطني العشرين للحزب. وكان من بين الضيوف قادة من فيتنام وباكستان وتنزانيا وألمانيا وكوبا ومنغوليا ولاوس وروسيا والفلبين وإيران وبيلاروسيا. وبالنسبة لبعض الضيوف، كانت هذه أول زيارة لهم إلى الصين، بينما كان آخرون “أصدقاء قدامى”.
وعلى مدى العقد الماضي، قد أوضح شي جين بينغ جليا أن الصين ستخلق فرصا جديدة من خلال التنمية وتضيف المزيد من الاستقرار واليقين إلى مثل هذا العالم المتقلب.
وقال شي “مع تطورها، ستقدم الصين إسهامات أكبر للرخاء المشترك للعالم”.
في الصورة الملتقطة يوم 9 ديسمبر 2022، شي جين بينغ يحضر القمة الصينية العربية الأولى في مركز الملك عبد العزيز الدولي للمؤتمرات في العاصمة السعودية، الرياض. (شينخوا)
وخلال اجتماعه مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في الرياض في ديسمبر الماضي، أشار شي إلى بطولة كأس العالم لكرة القدم التي استضافتها قطر، قائلا إن الحدث ضخ طاقة جديدة وإيجابية في عالم اليوم الذي يكتنفه عدم اليقين. وشكر الشيخ تميم الصين على مساهماتها في كأس العالم، مشيرا إلى أن الشركات الصينية قامت ببناء الاستاد الرئيسي، وأن وصول اثنين من دببة الباندا أضاف إلى الأجواء الاحتفالية للبطولة.
والاستاد الذي أشار إليه أمير قطر هو استاد لوسيل في قطر، حيث أقيمت المباراة النهائية لكأس العالم بين الأرجنتين وفرنسا، وهو ما يعتبره كثيرون إنجازا بارزا لمبادرة الحزام والطريق.
كما ساعدت مبادرة الحزام والطريق، التي اقترحها شي في عام 2013، إندونيسيا في بناء أول خط سكة حديد فائق السرعة. وبعد قمة مجموعة الـ20 في بالي، شاهد شي والرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو التشغيل التجريبي للسكة الحديدية فائقة السرعة بين جاكرتا وباندونغ من خلال رابط فيديو. ومن المتوقع أن تسهل السكة الحديدية، التي بناها البلدان بشكل مشترك، حركة البضائع والأشخاص فضلا عن زيادة دخل السكان المحليين.
وحتى الوقت الحالي، وقعت 151 دولة و32 منظمة دولية وثائق في إطار مبادرة الحزام والطريق، ما عاد بالنفع على الدول المشاركة.
وقد تطور ميناء بيرايوس اليوناني ليصبح واحدا من أسرع موانئ الحاويات نموا في العالم منذ انضمام شركة صينية إلى عملياته.
وطرح شي مقترحا مهما آخر في عام 2013، وهو مجتمع المستقبل المشترك للبشرية. وقد تم تضمينه في دستور كل من الحزب والدولة وأدرج في وثائق هامة للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية وفي آليات متعددة الأطراف.
في الصورة الملتقطة يوم 15 نوفمبر 2022، شي جين بينغ يتوجه إلى مكان انعقاد القمة الـ17 لمجموعة الـ20 في بالي بإندونيسيا. (شينخوا)
وقال شي لقمة مجموعة الـ20 إنه يتعين على جميع الدول أن تتبنى رؤية مجتمع المستقبل المشترك للبشرية وتدعو للسلام والتنمية وتعاون الكسب المشترك.
وأوضح شي في الخطاب أنه “يتعين على جميع الدول استبدال الانقسام والمجابهة والإقصاء بالوحدة والتعاون والشمول”.
كما وعد العالم رسميا بأنه “بغض النظر عن مرحلة التنمية التي تصل إليها الصين، فإن البلاد لن تسعى أبدا إلى الهيمنة أو الانخراط في التوسع”.
ويعتقد شي أنه طالما حافظت الدول الكبرى على التواصل والتعامل مع بعضها البعض بإخلاص، فإنه يمكن تجنب “فخ ثوسيديدس”.
وقال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في مقال مذيل بتوقيعه نُشر قبل زيارته للصين في فبراير الماضي، إن الصين أظهرت للعالم أن أي دولة يمكن أن تتطور وتتقدم دون الانخراط في التوسع، ويمكنها مساعدة الدول الأخرى على التطور في نفس الوقت.
واستجابة لمبادرة من شي، عقد وفدا المملكة العربية السعودية وإيران محادثات في وقت سابق من هذا الشهر في بكين. وتوصل البلدان إلى اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح سفارتي البلدين وبعثاتهما الدبلوماسية في غضون شهرين.
وكان أحد أبرز اجتماعات شي الدبلوماسية الرفيعة خلال الأشهر الماضية هو لقاءه الأول وجها لوجه مع الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ تولي الأخير الرئاسة. وخلال الحديث الذي استمر أكثر من ثلاث ساعات في بالي في 14 نوفمبر الماضي، قال شي لنظيره الأمريكي إن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة لا ينبغي أن تكون لعبة محصلتها الصفر حيث يتغلب أحد الطرفين أو يزدهر على حساب الطرف الآخر، وإن نجاحات الصين والولايات المتحدة تمثل فرصا وليست تحديات لكل منهما.
وذكر شي أن “الصين لا تسعى إلى تغيير النظام الدولي القائم أو التدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة وليس لديها نية لتحدي الولايات المتحدة أو لتحل محلها”.
وقال بايدن إن الولايات المتحدة تحترم النظام الصيني ولا تسعى لتغييره، مضيفا أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة ولا تسعى إلى إحياء التحالفات ضد الصين. وقال بايدن أيضا إن الولايات المتحدة لا تدعم “استقلال تايوان”، ولا تدعم “صينين” أو “صين واحدة، تايوان واحدة”، وليس لديها نية للدخول في صراع مع الصين.
وفي اجتماعاته مع القادة الأوروبيين، أكد شي أنه فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، تدعم الصين وقف إطلاق النار وإنهاء الصراع وإجراء محادثات سلام.
وفي فبراير الماضي، أصدرت الصين خطة سلام مكونة من 12 نقطة بشأن الأزمة الأوكرانية، تنص على ضرورة الحفاظ على سيادة جميع الدول واستقلالها وسلامة أراضيها بشكل فعال، والالتزام الصارم بالقانون الدولي المعترف به عالميا، بما في ذلك مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة. كما أشارت خطة السلام إلى أنه “يجب عدم استخدام الأسلحة النووية وعدم خوض الحروب النووية”.
وقال كيث بينيت، المتخصص المخضرم في الشؤون الصينية ونائب رئيس مؤسسة “نادي مجموعة 48” البريطانية، إن شي زعيم يقدم رؤية وخططا لدفع حل المشاكل الرئيسية التي تواجه البشرية.
في الصورة الملتقطة يوم 28 أكتوبر 2022، شي جين بينغ يزور متحف ينشيوي في مدينة آنيانغ بمقاطعة خنان وسط الصين. (شينخوا)
ريادة التقدم البشري
عندما ألقى شي خطابه بمناسبة حلول عام 2023، لاحظ الناس المجلدات الموجودة على أرفف الكتب خلفه في مكتبه، من بينها، ((تاريخ الصين العام))، و((القصائد الكاملة لأسرة تانغ))، و((التاريخ العالمي))، و((الأعمال الكاملة لويليام شكسبير)). وباعتبار القراءة هوايته المفضلة، فمن المعروف أن شي يستمد الحكمة من الكلمات المكتوبة لحكم البلاد.
وبعد مؤتمر الحزب، توجه شي إلى مقاطعة خنان بوسط الصين وزار أطلال ينشيوي، وكان هذا الموقع، الذي يبلغ عمره 3300 عام، هو عاصمة أواخر عهد أسرة شانغ (ين)، وهي أول أطلال مسجلة من هذه الفترة. وأثناء سيره ببطء في متحف ينشيوي، أخذ شي يتفحص المعروضات بعناية شديدة، والتي تشمل الأواني البرونزية وأدوات اليشم والنقوش على العظام وغيرها من الآثار.
وقال شي: “أردت زيارة هذا المكان منذ فترة طويلة.” “لقد جئت إلى هنا متعطشا لفهم أعمق للحضارة الصينية حتى نتمكن من جعل الماضي يخدم الحاضر ويستمد الإلهام لبناء حضارة صينية حديثة بشكل أفضل.”
وأضاف شي أن الحضارة الصينية، ذات التاريخ الطويل والمتواصل، قد شكلت أمتنا العظيمة، وستظل هذه الأمة عظيمة، وحث على بذل جهود لتعزيز الثقافة التقليدية، التي يعتبرها الزعيم “أصل” نظريات الحزب الجديدة.
واقترح شي الجمع بين المبادئ الأساسية للماركسية والثقافة التقليدية، إيمانا بأنه لا يمكن لأي دولة أن تزدهر وتدوم إلا عندما تكون عملية تحديثها متجذرة في التربة الخصبة لتاريخها وثقافتها.
وفي عام 2014، قال شي أثناء زيارته لجامعة بكين للمعلمين إنه يمانع فكرة إلغاء القصائد والمقالات الصينية الكلاسيكية القديمة من الكتب المدرسية. وفي نوفمبر 2013، زار تشيويفو، مسقط رأس كونفوشيوس، وفي العام التالي، ألقى كلمة في احتفال دولي لذكرى الفيلسوف الصيني القديم. وفي عام 2021، عندما زار حديقة مخصصة لـ تشو شي، وهو فيلسوف صيني شهير عاش في القرن الـ12، في مقاطعة فوجيان شرقي الصين، توقف شي لفترة طويلة أمام كلماته، حيث قال تشو إن الأمة تقوم على شعبها، والمجتمع يتأسس أيضا لصالح شعبه. واستشهد شي، في جلسة دراسة جماعية سابقة للمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، بكلمات تشو، مؤكدا أنه لا يوجد أي اعتبارات سياسية أهم من الشعب.
وأعرب شي مرارا وتكرارا عن أسفه للإذلال والهزيمة التي عانت منها الأمة الصينية، على الرغم من مكانتها في طليعة العالم على مدار الـ5000 عام الماضية.
وعلى وجه الخصوص، شعر شي أن التحديث الصيني النمط قد حقق نتائج مهمة بـ”تكلفة كبيرة وبمصاعب كبيرة”. وشدد على أن الصين يجب أن تشق طريقها نحو التحديث. ويعتقد الخبراء أن التحديث الصيني النمط، الذي يقدم شكلا جديدا من أشكال التقدم البشري، يبدد الأسطورة القائلة بأن “التحديث يساوي التغريب”. وقال شي إنه يجب بذل الجهود لتحقيق كفاءة أعلى من الرأسمالية مع الحفاظ على العدالة في المجتمع بشكل أكثر فعالية.
وقال تشنغ يونغ نيان، الأستاذ في جامعة هونغ كونغ الصينية (شنتشن)، إن التحديث الصيني النمط هو وسيلة للتعامل مع المشاكل التي تواجهها جميع البلدان، مؤكدا أن مصدر حيويته قبل كل شيء هو التنمية الاقتصادية المستدامة بشكل أساسي.
ويعتقد الباحث البريطاني مارتن جاك أنه إذا تمكنت الصين من معالجة عدم المساواة بنجاح كما فعلت في التغلب على الفقر المدقع، فإن مثل هذا التحديث الأكثر عدلاً وشمولية سيكون له تأثير عالمي كبير.
إن شي فخور وواثق من إنجازات وآفاق عملية التحديث. قال ذات مرة: “لقد باتت الصين قادرة على النظر للعالم في عينه”، في إشارة إلى صعود قوة البلاد. لكن هذا لا يعني السعي إلى الهيمنة الأحادية، ولا صداما بين الحضارات. واستشهد بالتشبيه الشهير للصين “الأسد النائم”، مشيرا إلى أن “لقد استيقظ الأسد، لكنه أسد مسالم وودود ومتحضر”.
وشدد على أن الصين لن تحذو حذو بعض الدول التي حققت التحديث من خلال الحرب والاستعمار والنهب، وأن الصين تتمسك بالسلام والتنمية والتعاون والمنفعة المتبادلة، التي يحددها النظام الصيني والثقافة الصينية.
هذا وكُتبت عبارة “تعزيز القيم المشتركة للإنسانية المتمثلة في السلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية” في دستور الحزب للعام الماضي.
كما اقترح شي بتواضع أن الاشتراكية في المرحلة الأولية يجب أن تدرس بدقة الإنجازات المفيدة للحضارة التي خلقتها الرأسمالية وتستفيد منها. وقال شي: “إن قضية تعزيز التحديث الصيني النمط، وهي مشروع غير مسبوق ورائد، ستواجه حتما مختلف أنواع المخاطر والتحديات والصعوبات، وحتى العواصف الخطيرة، التي يمكن أن نتوقع بعضها والبعض الآخر لا يمكننا توقعه”. وأردف قائلا: “دعونا نسخر روحنا القتالية التي لا تقهر لفتح آفاق جديدة لقضيتنا”.
وقال شي: “أولئك الذين يعملون سينالون النجاح، والساعون سيبلغون مرادهم. والمتفاني سيترك سمعة حسنة في التاريخ”.