في الأيام القليلة الماضية، استجابة لزيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان ، اتخذت الصين تدابير للدفاع عن النفس وأجرت تدريبات عملية مشتركة وتدريبات بالاسلحة الحية في المناطق البحرية والجوية في محيط جزيرة تايوان، في الوقت ذاته، استجاب المجتمع الدولي بشكل مكثف لذلك أيضا حيث أعربت أكثر من 160 دولة عن دعمها للصين.
في 2 أغسطس، وعلى الرغم من المعارضة القوية من الصين وكثير من دول العالم ، ذهبت بيلوسي إلى جزيرة تايوان واجتذبت انتباه العالم، نظرا لكونها الشخصية السياسية الثالثة للولايات المتحدة والثانية في خط خليفة رئيس الولايات المتحدة بعد نائب الرئيس.
وهذا يعني أن لدى المسؤولة الأمريكية درجة عالية من الحساسية السياسية عندما تذهب إلى تايوان للقيام بأنشطة بأي شكل ولأي سبب، على الرغم من إدراكها بأن زيارتها ما هي إلا استفزاز سياسي كبير للصين لرفع مستوى التبادلات الرسمية بين الولايات المتحدة وتايوان وتعتبرها الصين خيانة للالتزامات السياسية للولايات المتحدة، وخروجًا خطيرًا عن مبادئ “بيان شنغهاي” الصيني الأمريكي.
ظاهريا، يبدو أن بيلوسي قد نجحت، لكن هذا النجاح يشكل في أفضل الأحوال مكسبا سياسيا شخصيا قصير المدى فقد، الا أنها ستؤدي إلى عواقب التأثير الخطير لذلك على مبدأ الصين الواحدة، وأحكام البيانات الصينية المشتركة الثلاثة، والأساس السياسي للعلاقات الصينية الأمريكية.
ونذكر هنا انه في عام 1972 ، وعدت الولايات المتحدة صراحةً في “بيان شنغهاي” بأن الولايات المتحدة تعترف بأن جميع الصينيين على جانبي مضيق تايوان هي صينا واحدة وانها تلتزم بعدم اثارة أي اعتراض على أن تايوان جزء من الصين. في عام 1979 ، وعدت الولايات المتحدة صراحة في البيان الخاص بإقامة علاقات دبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة بأن الولايات المتحدة الأمريكية تعترف بحكومة جمهورية الصين الشعبية باعتبارها الحكومة الشرعية الوحيدة للصين. وبناء على هذا السياق ، سيحافظ الشعب الأمريكي على العلاقات الثقافية والتجارية وغيرها من العلاقات غير الرسمية مع شعب تايوان.
في عام 1982، قدمت الولايات المتحدة التزامًا واضحا في بيان 17 أغسطس بأن الولايات المتحدة الأمريكية اعترفت بحكومة جمهورية الصين الشعبية باعتبارها الحكومة الشرعية الوحيدة للصين ، وأن هناك صينًا واحدة فقط، وأن تايوان جزء من الصين.
- هل البيت الأبيض خارج عن السيطرة أم أنه يلعب دورا مزدوجا؟
أوضح الرئيس الأمريكي جو بايدن لبيلوسي أن الأمر يعتمد على قرار بيلوسي وأن البيت الأبيض لا يمكنه أن يحكم الكونجرس، مما يعني بأن هذا في الواقع نوع من الإذعان والتسامح واللعب المزدوج.
وليس غريبا ولا جديدا على الولايات المتحدة اللعب على الوجهين فهي الافضل في هذا الجانب من خلال الاستفادة القصوى من النظام الوطني الذي يجعل السلطة التنفيذية للحكومة والسلطة التشريعية للكونغرس مختلفة عن بعضها البعض بينما في الحقيقة هما وجهان لعملة واحدة.
فمن ناحية، هم يتحدثوا عن التعاون والصداقة مع حكومات الدول التي لها علاقات دبلوماسية ، ومن ناحية أخرى، يتواطؤون مع معارضة الدول ذات العلاقات الدبلوماسية ، واستخدام حقوق الإنسان والديمقراطية لممارسة الضغط، وحتى توفير السلاح والأموال.
يمكن لحكومة غير مطيعة أن تطيح بالحكومة الشرعية في أي وقت، وهذا يبدو واضحا عندما زار بايدن إسرائيل والمملكة العربية السعودية في يوليو الماضي، حيث تم الكشف عن هذا النهج المزدوج في تعاملها مع الآخرين بشكل كامل. وعلى الرغم من أن زيارته لإسرائيل استمرت قرابة يومين ، إلا أن إقامته في الأراضي الفلسطينية المحتلة استغرقت 50 دقيقة فقط. وفي المؤتمر الصحفي اللاحق أعلن بايدن “التزامه بحل الدولتين” لكنه شدد على أن هذا الحل “بعيد جدا”. وقال بايدن في السعودية “عندما أقابل القادة السعوديين ، سيكون هدفي هو تعزيز الشراكة الاستراتيجية على أساس المصالح والمسؤوليات المشتركة مع الحفاظ على القيم الجوهرية للولايات المتحدة.” وأوضح أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع أي تهديدات خارجية ومضايقات من جانب الحكومة ضد المعارضين والناشطين. لقد رأى الناس بوضوح أن الولايات المتحدة دولة متعجرفة ومستبدة بلا مصداقية. كانت زيارة بيلوسي مدفوعة بالمصلحة الذاتية.
على مدى العقود القليلة الماضية ، اختلق الناتو بقيادة الولايات المتحدة تهديدات وذرائع مختلفة ، مثل أسلحة الدمار الشامل ، وشن معركة كبيرة ضد دول ذات سيادة وشن حربًا حتى بدون أي سبب. وهنا نتسأل كم عدد المآسي الإنسانية التي حدثت في العراق وليبيا وسوريا وأفغانستان وأماكن أخرى؟ وكم عدد الضحايا المدنيين الأبرياء الذين سقطوا بسبب السلوك الامريكي؟ وكم عدد العائلات التي تشتت افرادها وتفككت؟ ومع ذلك ، لم يرمش جفن من هم في السلطة في الولايات المتحدة ولم تتحرك افكارهم ومشاعرهم مطلقًا بسقوط الابرياء حتى انهم لم يشعروا بتأنيب الضمير الإنساني ولا عقدة الذنب بسبب العواقب الخطيرة والكوارث التي تسببوا فيها.
وعودة الى زيارة بيلوسي الى تايون بذلت الصين أكبر الجهود الدبلوماسية وحذرت الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا من خلال قنوات مختلفة من أن زيارة بيلوسي إلى تايوان ، سيتسبب في أضرار جسيمة.
وقد أشارت بوضوح إلى أنها لن تقف مكتوفة الأيدي ولن تترك مجالًا للولايات المتحدة او غيرها في تشجيع الحركة الانفصالية لتايوان عن وحدة الأراضي الصينية، ويجب أن تتحمل الولايات المتحدة المسؤولية الكاملة عن جميع العواقب المترتبة على ذلك. ومع ذلك ، اصرت المسؤولة الامريكية على زيارة تايوان.
وحاول بعض المحللين تبرير الزيارة بأنها تأتي ضمن المصالح الشخصية المتعددة لبيلوسي وتتضمن. أولا، اقتراب انتخابات التجديد النصفي الأمريكية ، والتدهور العميق الذي يواجهه الحزب الديمقراطي. وان بيلوسي ارادت عبثاً كسب “نقاط سياسية” من خلال لعب “ورقة تايوان” وترك ما يسمى بالإرث السياسي.
ثانيا، مساعدة زوجها بول بيلوسي في تحقيق أرباح من استثماره الأخير في صناعة الرقائق. ووفقًا لعدد من التقارير الإعلامية الأمريكية ، أصبح زوج بيلوسي بول بيلوسي رجل ناجح في سوق الأسهم الأمريكية في العامين الماضيين ، وكانت رؤيته الاستثمارية دائمًا متقدمة على سياسات الحكومة. ففي عام 2020 ، بلغ العائد الاستثماري لبيلوسي وزوجته 56٪ ، وتبلغ ثروة عائلة بيلوسي أكثر من 100 مليون. ثالثا، العداء حيث معروف عن بيلوسي عدائها القديم للصين وتاريخها القديم حافل بمواقفها في انتقاد الصين حيث انها عارضت مساعي الصين لاستضافة الألعاب الأولمبية منذ عام 1993 على أساس انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة. كما انها واحدة من المشرعين الذين حثوا الرئيس الأمريكي آنذاك جورج دبليو بوش، دون جدوى، على مقاطعة حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في الصين في عام 2008.
- وسيناريوهات واجراءات مضادة قادمة
تعتبر الصين زيارة بيلوسي لتايوان تأتي في إطار تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية للصين بذريعة حماية الديمقراطية ، واستمرارها في إفراغ مبدأ الصين الواحدة ، وأنها لمست الخطوط الحمراء لأحد الثوابت الصينية.
لهذا نتوقع ان تبدأ الصين بإجراءات مضادة لهذا السلوك الامريكي ستتضمن الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها. وتستمد الصين اجراءاتها المضادة وفقا للاعتبارات التالية : أولا ، صفر التسامح. إذا كان الجانب الصيني غير مبالٍ بإجراءات الجانب الأمريكي الملحة المتزايدة للتدخل في الشؤون الداخلية والإضرار بالسيادة، ولم يقاوم بحزم تصرفات الجانب الأمريكي المتهورة وغير المسؤولة ، فعندئذٍ أهداف ميثاق الأمم المتحدة والأعراف الأساسية للعلاقات الدولية، مثل احترام السيادة والسلامة الإقليمية ، وستصبح فارغة وحبرا على الورق.
قد تصبح البلدان النامية التي تضم أكثر من 80٪ من سكان العالم الهدف التالي في أي وقت.
ثانيا: إظهار الثقة والقوة. حيث لم تعد الصين كما كانت منذ أكثر من 120 عامًا. ولن يسمح الشعب الصيني أبدًا لأي قوى أجنبية بالتنمر عليهم أو قمعها أو استعبادها. لا أحد يستطيع أن يقوم بذلك ، ولا حتى الولايات المتحدة .
ثالثا، موقف الصين حكومة وشعبا من قضية تايوان ثابت ، وهي دائما تسعى إلى حل سلمي ، لكنه لا يتخلى عن استخدام القوة أبدًا.
تأمل الصين بأن تتراجع الولايات المتحدة وما يسمى بـ “الدول الديمقراطية” عن مواقفها تجاه الصين وان تولي أهمية للمصالح الجوهرية والإرادة الراسخة للشعب الصيني ، الذي يمثل خمس إجمالي عدد السكان ، وأن تحترمه.
لقد تسببت زيارة بيلوسي بتراجع العلاقات الصينية -الأمريكية وأصبح الوضع في مضيق تايوان أكثر اضطرابا.
من الصعب توقع اين ستسير الامور في المستقبل لكن الزيارة اصبحت بالنسبة للصينيين نقطة تحول في العلاقات الصينية الأمريكية. وأنه سيكون من الصعب للغاية على الصين والولايات المتحدة تنفيذ تعاون فعال بشأن القضايا الدولية الرئيسية والقضايا التي تهم البلدين لفترة طويلة.
ليس هذا فحسب بل أن زيارة بيلوسي أغرقت منطقة تايوان في حالة عدم يقين كبيرة عسكريا واقتصاديا ، وتسببت في تأثير سلبي على آفاق التنمية فيها من جميع الجوانب. اذ ان المناورات والتدريبات العسكرية التي ينفذها جيش التحرير الشعبي الصيني هي بمثابة خنق تايوان في علاقتها الخارجية ، الأمر الذي يجعل تايوان ، التي تعتمد بشكل كبير على تجارة الاستيراد والتصدير ، في معضلة لا يمكن تصدير البضائع منها ودخول الناس اليها.
لقد وضعت الولايات المتحدة والغرب قضية تايوان على قدم المساواة مع الصراع بين روسيا وأوكرانيا ، وأدرجتها في سرد ما يسمى بالصراع الأيديولوجي “الديمقراطية مقابل الاستبداد”. لقد اصبحت السلطات تايوان كالدمى وحجر الشطرنج التي تحركها الولايات المتحدة، وساهمت في تدهور البيئة السياسية فيها حيث أصبح السياسيون والرأي العام السائد أكثر اعتمادًا على الولايات المتحدة، وأصبحت قضية تايوان أكثر تدويلًا.
لقد اصبح واضحا لماذا روجت الولايات المتحدة بقوة لزيارات السياسيين الغربيين إلى تايوان فهي تسعى لتكرار نموذج النسخة الروسية الاوكرانية وتعزيز الصراع في تايون في اطار مصالحها واطماعها.
تتبع الصين الحكمة رغم المقدرة على الفعل في تعاملها مع قضية تايون وهي لا يخفى عليها اهداف الولايات المتحدة واطماعهم لذلك هي تتحرك وفقا لاستراتيجياتها الخاصة وليس وفقا لاستفزازات وردود فعل فارغة المضمون انطلاقا من النضال الشامل، وإعادة تقييم العلاقات في اطار توحيد الوطن الأم وضمان الأمن القومي.
ستستخدم الصين كل الوسائل المطلوبة لتحقيق ذلك ولن تتوانى عن الدفاع عن مصالحها سواء بالضغوط الدبلوماسية للتأثير على البيئة السياسية والرأي العام في جزيرة تايوان، او باستخدام الضغوط العسكرية وأخذ زمام المبادرة.
وو ييهونج كبير الباحثين في مركز أبحاث China Taihe