اسم الرجل يحمل معانى. تشارلز اسم نادر لملوك إنجلترا. كان هناك اثنان تشارلز فقط فى كل تاريخ البلد. تشارلز الأول وهو الملك الوحيد الذى تم إعدامه بعد فترة الحرب التى يمكن اعتبارها أهلية فى بريطانيا (فى القرن السابع عشر)، وبعدها بدأت فترة حكم الرجل الذى واقعيًّا أعدمه: كرومويل- ثم بعد موت كرومويل وعودة الملكية إلى إنجلترا، عاد تشارلز الثانى (ابن الملك الذى أُعدم)، وقد كان من أكثر الملوك إثارة للاختلاف، خاصة أنه انتمى للرأى القائل بأن للملوك عهدًا سماويًّا يعطيهم ما لا يحقّ لغيرهم. لذلك فإن الاسم معبأ لمن يعرفون تاريخ إنجلترا- وكما يُقال (ليس فقط فى العربية) إن للناس من أسمائهم أقدارًا.
أشهر شيء عن الأمير تشارلز (الآن الملك تشارلز الثالث) أنه بقى الجزء الأكبر من عمره الفاعل وليًّا للعهد، وفى تلك الصورة يُصور فى خلفية المشهد، منتظر دورًا سوف يأتى بعد وفاة والدته؛ الملكة إليزابيث الثانية.
هذا التصوير خاطئ؛ لأن تشارلز تغيَّر كثيرًا فى فترة ولاية العهد شديدة الطول.
هناك- خاصة فى الدوائر الاجتماعية القريبة من العائلة المالكة البريطانية- من يركزون على طريقته فى التعامل- وقد كانت فى السبعينيات تحمل قدرًا كبيرًا من توارى الشخصية وراء والدته، ثم بَدَت شخصيته وطريقته فى الثمانينيات بقدر من العنفوان الذى أحيانًا بدا وكأنه يميل إلى الجنوح، ثم جاءت التسعينيات ببرودة ربما نتجت عن القصة المعقدة لزواجه من الأميرة ديانا، بينما قلبه متعلق بامرأة أخرى. وأخيرًا العشرون عامًا الماضية وقد كان فيها تشارلز شديد النجاح فى مزج الثقة بالهدوء، العمل الدءوب بما بدا وكأنه سكينة داخلية. وربما أن قربه ثم زواجه من السيدة التى أحب طيلة عمره، ثم هدوء علاقته بأولاده وتطور العلاقة- خاصة مع ابنه الأكبر (والآن ولى عهده وليام) إلى صداقة- هدأ من نوبات الرياح التى كانت تموج فى نفسه. ولذلك ليس غريبًا أن شعبية تشارلز زادت بشكل مَهول فى السنوات العشر الماضية. الرجل وجد ضالته داخل نفسه، فعرف نفسه، وعليه عرفه الآخرون.
لكن هناك فى تطور تشارلز ما هو أهم من الصورة التى بدا عليها فى العقود السابقة. داخل فكره كانت هناك رحلة مرت على أفكار مهمة؛ من قدرة المجتمع على تحمل التعددية داخله، إلى المعانى العميقة فى علاقة الإنسان بخالق الكون، إلى علاقة الإنسان بالطبيعة.
تشارلز أدرك بذكاء أن موقعه يعطيه قدرات مَهولة؛ ليس فقط من الناحية المالية، ولكن ربما أهم، من ناحية القدرة على جذب عقول براقة حوله. لذلك فإن المتابع لما يمكن اعتباره بلاط (الأمير) تشارلز فى السنوات العشر الماضية يلحظ وجود أشخاص شديدى الاهتمام بالطبيعة، خاصة الأراضى الزراعية، شديدى الاهتمام بدور الكنيسة الإنجيلية (وهى لا شك الكنيسة الأكثر انفتاحًا فى العالم على الأفكار الناظرة لفكرة التوحيد بشكل يتعدى التصورات الموجودة فى التراث اليهودى والمسيحي)، وأيضًا أشخاص مهتمين بالتطورات التى مر بها المجتمع البريطانى فى العقود القليلة الماضية، وأهمها زيادة التنوع العِرقى والثقافى.
فى الماضى كان تشارلز يعلن عن آرائه بشكل واضح، وقد كانت تلك نقطة شدّ وجذب بينه وبين العديد من السياسيين البريطانيين، وأحيانًا نقطة توتر بينه وبين الملكة إليزابيث، التى كانت مؤمنة دائمًا بفكرة حيادية العرش البريطاني؛ ليس فقط فى السياسة، ولكن أيضًا فى العديد من أهم القضايا الخلافية داخل المجتمع. مع الزمن بدا الرجل يعبر عن أفكاره بشكل أهدأ وأذكى، بعيدًا عن الإعلام.
جاءت التعبيرات الأهم من خلال أعمال، وليس أقوال. تشارلز عمل مع مهندسين (ذوى أفكار فلسفية) من أجل بناء قرى كاملة، تكاد تكون نموذجية لفكرة التكامل مع الطبيعة، وفى الوقت نفسه حاملة لتصورات جميلة عن معنى التراث فى الريف الإنجليزى.
تشارلز أيضًا عمل مع مجموعة كبيرة من المزارعين ومُلّاك الأراضى على تطوير صناعة منتجات زراعية بشكل يحترم صحة الإنسان الذى سيستهلك تلك المنتجات، كما يحترم علاقة المزارع مع الأرض- والأرض فى بريطانيا (خاصة فى إنجلترا) لها ما يشبه القدسية.
تشارلز أيضًا عمل مع مجموعة من المفكرين والموسيقيين على تطوير برنامج دراسى فى إحدى جامعات ويلز يتناول فكرة الهارمونية بشكل واسع- بداية من الهارمونية فى التعامل الإنسانى داخل المجتمعات، إلى علاقة الإنسان بالطبيعة، إلى علاقة الإنسان بذاته، وتلك من أصعب وأنعم ما يصبو إليه الإنسان.
فى كل ذلك وغيره من أعمال تشارلز فى العشرين عامًا الماضية، كان الرجل فى الخلفية، يدعم ويساعد، وبالطبع بمكانته يعطى قوةَ دفعٍ لها وضعٌ ورونق خاص داخل بريطانيا (رونق الملكية الثابتة العريقة).
تصورى أنه الآن وقد صار ملكًا لن يُغير من طريقته، فهو- قبل أى شخص آخر- يدرك أن المجتمع البريطاني- خاصة بعد سبعين سنة من العيش مع هدوء الملكة إليزابيث ونأيها عن كل ما هو مثير للجدل- لن يستسيغ، وربما لن يقبل (وبحزم) ملكًا يتعدى الدور المتعارف عليه للملك وللملكية فى بريطانيا، وهى من قبل ومن بعد الديمقراطية الأعرق (وفى رأيي) الأكثر تطورًا فى العالم.
لكن يبقى أننا، ولأول مرة، غالبًا منذ تقريبًا قرنين من الزمان، أمام ملك بريطانى يحمل داخله أفكارًا مهمة، ولو وجدت لها مساحة كبيرة فى المجتمع، ممكن أن تكون ذات تأثير فى مفاهيم أساسية فى فهم المجتمع لذاته وفى طريقته فى الحياة.
* كاتب مصرى مقيم فى لندن