شباك مفتوح.. لحظة تاريخية مهمة فى روسيا

شباك مفتوح.. لحظة تاريخية مهمة فى روسيا
طارق عثمان

طارق عثمان

10:49 ص, الأحد, 14 فبراير 21

اعتقال السياسى الروسى ناڤالنى، فور هبوطه فى موسكو قادمًا من ألمانيا، حيث كان يُعالج من تسمم اتهم النظام بتدبيره، أثار حفيظة كثيرين. ولمتابعى روسيا، يبدو المجتمع منقسمًا بين من يرون فى نافالنى فرصة تغيير بعد أكثر من عقدين من حكم الرئيس بوتين، وبين من يرون مثل هذا التغيير مؤامرة غربية على البلد. الحدث مهم، لكن الأكثر أهمية هو الانقسام الفكرى فى المجتمع- وهو مفهوم؛ لأن المجتمع يستشعر أن البلد يمر بلحظة مهمة.

الرئيس بوتين لا شك أعاد الاستقرار وقدرًا كبيرًا من الثقة بالنفس، للدولة الروسية بعد سنوات الوقوع والضياع والفساد المهول فى التسعينات، التى أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي. كما أن الرجل أعاد تنظيم هيئات الدولة، وكما يقول بعض الروس، أعاد إحياء أجزاء من الدولة بعد عقود من الترهل والإهمال. كما أنه، والمجموعة التى أحاطت به، نجحوا فى الاستثمار فى عدد من الملفات السياسية، سواء فى الجوار الروسى أو أبعد، لإحراز نجاحات إستراتيجية مهمة لروسيا. وكانت بعض هذه النجاحات على حساب النفوذ الغربى بشكل عام، والأمريكى بشكل خاص. وذلك نجاح كبير فى نظر عدد من المفكرين الروس، وفى نظر قطاعات واسعة من المجتمع.

لكن بعد عشرين سنة من الحكم الفعلى، هناك رغبات واضحة فى التغيير- ليس فقط للشخص، ولكن للفكر. وهذه نقطة متكررة تُلاحظ دائمًا فى الديمقراطيات الغربية الأوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا؛ وهى أنه بغض النظر عن النجاحات السياسية والاقتصادية، استمرار حكم فكر ما لسنوات كثيرة متعاقبة يولد رغبة فى تجربة الآخر. وهذا واضح الآن فى أجزاء من المشهد السياسى الروسي.

لكن الفرق بين الديمقراطيات الأوروبية العريقة وروسيا يكمن فى كيفية التغيير. فى أوروبا، الأمور تسير بسلاسة فى انتخابات بلا أدنى خطورة، لا على العملية الديمقراطية ولا على قطاعات الدولة. لكن كيفية التغيير- إذا جاء- فى روسيا، تحتمل الكثير.

هذا الغموض وعدم اليقين يقلقان كثيرين؛ ذلك أن المؤسسات والمجموعات الأهم فى روسيا خارجة من القطاعات الأمنية صاحبة النفوذ فى الدولة. وبطبيعة تلك المؤسسات، ما يدور داخلها سرى، وما يصل منه للمتابعين قليل، وغالبًا جزء وليس كل الحقيقة. ولذلك فإن تفكير دوائر مهمة فى القرار الروسى يبدو مبهمًا.

اللحظة التاريخية مهمة لسبب خارجى أيضًا؛ وهو أن أوروبا تعيد ببطء تشكيل علاقتها بروسيا. أزمة الكورونا فى 2020 طغت على اهتمام الجميع، لكن متابعى أوروبا سيتذكرون أن المفوضية الأوروبية التى انتخِبت فى 2019 جاءت بأجندة چيو سياسية بامتياز. وفى قلب هذه الأجندة اعتماد أجزاء من أوروبا على الطاقة الروسية. وهو وضع يريد كثيرون فى المفوضية تغييره. والآن، مع تغيرات مهمة فى دنيا عالم الطاقة، فإن بعض التكنولوجيات وبعض مصادر الطاقة (ومنها غاز شرق البحر المتوسط) تعطى أوروبا أفكارًا لكى تقلل الاعتماد على روسيا.

هذا موضوع تتعدى أهميته الاقتصاد، وتدخل فى جوهر العلاقة السياسية بين روسيا والاتحاد الأوروبي. وفى هذا الجوهر قلق أوروبى (خاصة فى الشرق) من طموحات روسيا ومن صورة تاريخية لروسيا ماثلة فى وجدان مجتمعات دول شرق أوروبا. والمهم هنا أن تغيرات كبرى فى العلاقة الروسية- الأوروبية قد تجر معها مشاكل وتوترات، وربما قلاقل فى المنطقة الضيقة الفاصلة بين دول الاتحاد الأوروبى وروسيا.. وقد سماها عدد من أهم المؤرخين الأوروبيين «أرض الدم».

يزيد على ذلك، أن العلاقة الأمريكية الصينية قد دخلت الآن مرحلة المواجهة الإستراتيجية، وروسيا هنا فى موقف صعب. من ناحية، هناك ما يجمعها بالصين، خاصة مصلحة تضييق نطاق النفوذ الأمريكى فى جوارهما معًا. كما أن الصين مشترٍ مهم للغاز الروسى وعليه مورد اقتصادى كبير للدولة الروسية. لكن روسيا تدرك أن الصين اليوم- خاصة تحت إدارة الرئيس تشى جامپينج- ليست مجرد لاعب اقتصادى كبير. روسيا ترى صعود الصين كقوى عظمى، ستكون لها سياسات جديدة وأدوات عمل جديدة فى كل أنحاء العالم، خاصة فى جوارها المباشر- وروسيا فى جوار الصين المباشر. ولا شك أن الدب الروسى ينظر بتوجس لخروج التنين الصينى من مغارته.

تبقى نقطة أخيرة لأهمية هذه اللحظة لروسيا.. نقطة متعلقة بوجدان المجتمع. روسيا خرجت من القرن العشرين مجروحة، ليس فقط اقتصاديًّا ولكن الأهم كمجتمع صاحب تاريخ كبير وثقافة من الأغنى فى التاريخ الإنسانى الحديث. العقدان الماضيان شهدا عودة قدر معقول من الحياة الكريمة وعودة الاستقرار للدولة وللمجتمع. ومع الاثنين، عادت فكرة الدولة الروسية القوية صاحبة التأثير والصوت المسموع فى جوارها وفيما هو أبعد. لكن هناك أسبابًا واضحة فى أسس الاقتصاد وفى ديناميكيات الاقتصاد السياسى وفى معادلات القوة مع اللاعبين الكبار فى العالم، كلها تثير القلق حول المستقبل. وعندما يمتزج القلق بالرغبة فى التغيير بعد عقدين من الزمن من حكم فكر معين، تتكون علامات استفهام علمنا التاريخ أنها أحيانًا نهايات لما كان قبل، وبدايات لما هو جديد.

* كاتب مصرى مقيم فى لندن