الرجل يقترب من الخامسة والتسعين ولكن لديه الكثير الذى لا بد له أن يقوله. من زاوية رؤيته، كلامه ضرورى لإكمال مهمته، والوقت قد صار محدودًا.
العمر له أحكامه. مثلاً الرجل عنده مشكلة فى الركبة تصَعِب حركته. كما أنه، وبالرغم من اهتمامه بالتكنولوجيا، لم يعد سهلًا عليه استخدام الوسائل الحديثة فى الاتصال والكتابة. وهو لا يستطيع الاعتماد على معاونيه فهم، وإن كانوا أصغر منه بعقود، لكنه شيخ العقل والهمة قد أخذ منهم أكثر مما أخذ منه.
لكن العائق الرئيسى هو المكان الخاص، وربما الحرج، الذى هو فيه. أو الذى وضع هو نفسه فيه. الرجل – بينديكت – كان بابا روما، وريث سان بيتر على الأرض، الًحبر الأعظم، وسيد الكنيسة الكاثوليكية، أهم وأكبر وأغنى كنيسة فى العالم، وفى التاريخ. لكنه استقال. وقد كانت استقالته فى 2013 حدثًا من الأحداث العظام، فهو أول بابا يستقيل منذ حوالى ثمانية قرون تقريباً. وفى كنيسة قائمة على التقاليد، كسر القواعد أمر جلل. وهو، وإن كان لا يزال يتمتع بالاحترام والتقدير اللائقين بمن كان فى مكانته، لكنه يعرف أن استقالته جاءت كصاعقة لدوائر كثيرة فى الكنيسة. وفى نظر هؤلاء، فإنه إذا كان قد اختار الذهاب، فليذهب إذن.
كما أن الرجل الذى انُتخب بابا من بعده – البابا الحالى فرانسيس – أبعد ما يكون عنه فكرًا ورؤية لمستقبل الكنيسة. وهذا يخلق حساسيات. بينديكت يرى أنه لا بد له أن يقول، لكن إذا كان ما سيقوله فيه اختلاف عما يقوله البابا الحالي، فذلك قد يُضعِف من وزن الكنيسة ككل.
لكن بينديكت يشعر بأن الكنيسة، وأوروبا، والعالم المسيحي، يمر بلحظات هامة. فى رأيه موجة الليبرالية الرافضة ليس فقط للدين ولكن أيضا لله (وهى تيار قوى فى تدفق الفكر الغربى منذ منتصف القرن التاسع عشر) قد وصلت إلى نهاياتها. هنا، بينديكت يقدم تحليلات، قد يُتفَق أو يُختَلف معها، ولكنها ليست مشاعر أو أمنيات. وفى رأيه أن العالم المسيحى موجود، لم يختف. أى أن الأفكار النابعة من الفهم الأوروبى (اللاتيني) للمسيحية، تلك الأفكار المؤسسة التى أسهمت بشكل كبير فى تشكيل الوعى فى أوروبا وفى الأميركتين فى القرون الأربعة الماضية، ما زالت مؤثرة فى تفكير الناس وأسلوب حياتهم فى تلك المجتمعات. ولذلك، فى رأيه، فإن الكنيسة عليها أن تصارع من أجل مستقبل عالمها، من أجل مستقبلها. ذلك أنه، فى رأيه، وصول الليبرالية الرافضة لله إلى نهاياتها لا يعنى بالضرورة عودة قوة الفكر الكاثوليكى التقليدى إلى أوروبا. بنيديكت يعلم أن هناك رؤى أخرى للحياة، للإنسان، لعلاقته بالكون، واقفة على الأبواب، منتظرة فراغات أو لحظات خوف أو رفض لتعرض أفكارها على العالم، بالضبط كما حدث من قبل فى فترة التنوير الأوروبي.
بنيديكت رأس أهم مكاتب الكنيسة الكاثوليكية المختصة بالعقيدة، لحوالي ربع قرن، قبل أن ينتخب بابا فى 2005. ذلك رجل متشبع، ليس فقط بأفكار المدارس المختلفة للفكر الكاثوليكي، ولكنه ذو باع كبير فى البحث فى الديانات والرؤى الأخرى عن معنى الحياة الإنسانية. كما أنه متابع وكاتب عن تغيرات اجتماعية مهمة فى أوروبا، وآراؤه تستحق الاهتمام، حتى وإن كانت (أو ربما خاصة وأنها) خارجة عن السرد العام فى الإعلام الغربي. لذلك فإن تصوره للحظة صراع على الوعى الغربي، وعلى روح العالم المسيحي، تصور ذو وزن.
بينديكت لا يرى صراعاً بمفهوم سياسي. الرجل أبعد ما يكون عن تأييد تيارات سياسية أوروبية، أو أمريكية (سواء فى الولايات المتحدة او فى أمريكا اللاتينية) تتخذ من العقيدة المسيحية (بتنوعاتها) منطلقًا سياسيًا. الصراع لديه فكري. إذا كانت هناك تشققات واضحة، واصلة إلى الأسس، فى بنيان الليبرالية الرافضة لله، وإذا كانت هناك أفكار ورؤى أخرى عارضة نفسها على العقل الغربي، فكيف يمكن للكنيسة أن تتصرف؟ والأهم، كيف يمكن للكنيسة أن تنظر لتاريخها، بما فيه التطورات الكبرى فى الثيولوجيا (العقيدة) وهى أمام هذه اللحظة الحاملة تغيرات يراها هو حاسمة، وناقلة العالم إلى مرحلة جديدة؟
بنيديكت يشعر بمسئولية. عليه أن يقول، لأنه يعرف أن غيره يصعُب عليه القول وهو على عرش سان بيتر أو محيط به. بنيديكت يشعر أيضًا بأنه، بحكم السنوات الطويلة التى قضاها مسئولا عن أهم مكاتب العقيدة فى الكنيسة، العقل القادر على التفنيد والدعم وتقديم الأفكار التي، فى تصوره، ستحتاج إليها الكنيسة فى السنوات الهامة المقبلة. ولعل الناظر إلى ذلك الرجل الألماني، القادم من قرى بافاريا، والذى قضى حياته فى المكتبات العريقة داخل أروقة الكنيسة الكاثوليكية، يشعر انه، وبالرغم من عمره، ينبض برغبة فى الحياة نابعة من إحساس بمسئولية يراها هو مؤثرة فى مستقبل كنيسته وفى تصوره لدورها فى العالم.
* كاتب مصرى مقيم فى لندن