جمال عبد الناصر.. تفكير بعد خمسين سنة..(10) العلاقة الأعقد
الحلقتان السابقتان من هذه السلسلة كانتا عن فشل لمشروع جمال عبد الناصر (فى سوريا) ونجاحه (فى الجزائر)، والسؤال الأكبر هنا كان عن مدى قدرة المشروع على تحويل سردياته عن الوحدة العربية إلى سياسات مع الدول العربية. والمحور الأهم هنا كان سياسة جمال عبد الناصر تجاه السعودية.
والأهمية نابعة من أن السعودية كانت بحكم الحجم الجغرافى والنفوذ السياسى فى الجزيرة العربية، وبالطبع الثروة المالية، الدولة العربية الأكثر تأثيرًا فى كل المشرق العربى، لكن العلاقة مع السعودية كانت معقدة منذ البداية، ولأسباب جوهرية. أحدها: أساس الأمن السعودى قام على علاقة خاصة، فى البداية مع بريطانيا، ثم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد كانت تلك العلاقة وقتها أهم أسس الأمن السعودى. وعليه فإن المملكة السعودية، حتى وإن تعاطف بعض أمرائها مع المشروع الناصرى، لم يكن ممكنًا لها أن تذهب مع جمال عبد الناصر إلى مواجهة مع الغرب. الثاني: تعريف المشروع الناصرى لنفسه على فكرتي التحرر والتقدم (كما تحدثنا فى حلقة سابقة من هذه السلسلة) وصل به بسرعة إلى حائط سد مع النظم الملَكية العربية، التى رآها المشروع الناصرى على أنها رجعية، بمعنى أنها ضد حركة التحرر والتقدم التى يقودها ذلك المشروع فى كل أنحاء العالم العربى. الثالث: اندفاع المشروع الناصرى إلى داخل الجزيرة العربية نفسها- إلى اليمن لمساعدة حركة الجيش هناك ضد نظام الإمامة- كان تطورًا رأته العائلة السعودية شديد الخطورة عليها. لأنه فى الفِكر السعودى، سقوط نظام ملكى فى الجزيرة العربية سيل يعقبه طوفان. الرابع: أن تلك الرؤية السعودية- وهى مفهومة- استدعت تدخلًا سعوديًّا مباشرًا وكبيرًا فى اليمن لمساندة (وتطوير) نظام الإمامة. وكان الحاصل هنا مواجهة سياسية وإعلامية وعسكرية شبه مباشرة بين المشروع الناصرى والمملكة السعودية. الخامس: كما هي الحال فى كل المواجهات التى تصل إلى تلك الدرجة من السخونة، فإن الأطراف تلقي بالقفازات جانبًا.
والظاهر من بعض الشهادات التى خرجت إلى العلن فى السنوات القليلة الماضية، أن بعض الدوائر فى الجزيرة وصلت فى قلقها من تمدد المشروع الناصرى إلى خوف عميق أوصلها إلى زيادة سعير النار فى رؤية قوى كبرى (أهمها أمريكا) للمشروع الناصرى. السادس: أن الآلة الإعلامية للمشروع الناصرى، وقد كانت وقتها أولى المحاولات العربية للتأثير الواسع فى كل أنحاء العالم العربى، وصلت فى هجومها على المملكة السعودية إلى ما ترك فى النفوس الكثير من الاستياء. السابع: كان هناك القبول والنفور الإنسانى.. بمعنى أن جمال عبد الناصر مَثّل الطبقة الوسطى المصرية التى أعطت ظهرها لتجربة الكوزموبوليتانية فى العالم العربى (التى كانت نموذج التنمية والتقدم فى النصف الأول من القرن العشرين)، ثم أصبح فى وجدان الكثيرين تجسيدًا لتمنيات وأحلام طبقات وسطى وفقيرة كبيرة جدًّا فى كل أنحاء العالم العربى.
بينما فى المقابل فإن الدائرة المؤثرة وقتها فى قرار المملكة السعودية (وهى تلك حول الملك فيصل، سواء عندما كان وليًّا للعهد أو بعدما وصل إلى الحكم) كانت قد بدأت تقترب من وتتعود على أعلى درجات الرغد الغربى، وخاصة الأوروبى. وكان لذلك الفارق الشاسع فى أسلوب الحياة وما يزرعه فى الوجدان والتصورات، دور كبير فى تباعد الأشخاص، وليس فقط الرؤى السياسية والمصالح.
كل ذلك جعل العلاقة الناصرية-السعودية مشحونة ومعقدة. وبالرغم من أن العلاقة بدت وكأنها تحسنت كثيرًا بعد هزيمة حرب الستة أيام فى 1967 واجتماع العرب (فيما قيل فى العلن وقتها) على فكرة التحدى ومساندة دول المواجهة (وأهمها وقتها مصر)، فإن رواسب المشاكل فى العلاقة كانت أقوى وأعمق. وإذا كان سهلًا فى حالة تجربة الوحدة مع سوريا أن نُدين أسلوب تفكير وعمل المشروع الناصرى.. وأن نعطيه حقه فى حالة قربه ومساعدته للثورة الجزائرية.. فإن الحكم على تفكير وعمل المشروع الناصرى فى علاقته بالمملكة السعودية أكثر صعوبة.
أولًا: لأن طموحات المشروع الناصرى وقتها كان لها ما يبررها. وصراعه مع ما سماه قوى الرجعية فى العالم العربى كان منطقيًّا إذا لم يكن حتميًّا.. ثانيًا: لأنه بالرغم من المشاكل المهولة التى أدى إليها التدخل المصرى فى اليمن فى أدوات العمل والقوة المصرية، فإن فكرة وقوف المشروع الناصرى بما مثّله وقتها بجانب ثورة عربية ضد أكثر النُّظم العربية تخلفًا وقتها، كان أيضًا مفهومًا.. وثالثا: لأن التحالفات التاريخية الحاكمة فى قرار المملكة السعودية وقتها حتّمت من المواجهة السياسية بينها وبين المشروع الناصرى.
لكن مع كل ذلك يبقى أن المشروع الناصرى سار فى عداء كبير، تطور ليصبح مواجهة حقيقية مع الدولة العربية الأهم فى كل المشرق العربى، وهى وقتها (وإلى الآن) دولة ذات قدرات كبيرة للغاية.. كما أن المشروع الناصرى سار فى تلك المواجهة بأساليب كانت كثيرًا فاقدة للفعالية والكفاءة. هناك من الناصريين من يقولون إن ما تركه جمال عبد الناصر فى الوجدان العربى، أثبتت الأيام أنه أعمق تأثيرًا مما تركه معارضوه وأعداؤه.
وفى هذه النظرة فإن تمثيله لفكرة الوحدة العربية (حتى ولو فى الأمنيات) نجح، بالرغم من إخفاقاته فى ملفات عدة مهمة.. لكن هناك أيضًا فى المقابل رأى يرى أن الإخفاقات، فى الفكر أو فى التنفيذ، وأحيانًا فى الاثنين، أبقت أثر الرجل ومشروعه فى عوالم الوجدان، بعيدة عن الواقع. بينما فِعل الآخرين بقي واستمر وزاد من نفوذه وتأثيره.
كاتب مصرى مقيم فى لندن