فى تقدير عباس العقاد (2)
من ذكريات حافظ صناجة الأمة
وقد عثرت للأستاذ العقاد على مقال له بعنوان «من ذكريات حافظ» منشور بمجموعة «بين الكتب والناس» التى صدرت سنة 1952، وهو منشور فى الأصل بجريدة الأساس السعدية فى 21/7/1950، كتبه الأستاذ العقاد بعد ثمانية عشر سنة من رحيل شاعر النيل، يروى فيه ذكرياته يوم تلقى نبأ وفاته، ويسترجع ما انعقد بينهما من صداقة ومودة فى تلك الأيام، وكيف كان رحمه الله من أسرع الناس إلى كسب الصداقات، فهو من «الشخصيات» التى لا تحجزها المعالم والحدود، ويذكر العقاد كيف وصفه لزائرةٍ تَصَادَفَ زيارتها له ساعة تلقيه النبأ الحزين وصفه بأنه «صناجة الأمة»، وليس أصدق من هذه الكلمة بكل معانيها فى وصف حافظ.. كان قوى الحافظة يعتمد على ذاكرته فى حفظ شعره وحفظ المئات من القصائد العربية، ومن ثقته فى حفظه لا تجد فى بيته ورقة يدون عليها كلامه أو كلام غيره لثقته فى حفظه وقوة ذاكرته.. وكان حَسَنَ الإنشاد، بل رائع الإنشاد، يلقى شعره بلهجة أقرب إلى الترتيل، ويستعيده السامعون طربًا للصوت والإنشاد، وكان يختار كلماته بجرسها وإيقاعها وموقعها كأنه يضع ألحانًا. وكان رحمه الله أنيس المحضر ظريف المنادمة، تسرع البشاشة إلى وجه من يراه.. وتتداعى المعانى لدى العقاد فيكتب مقالاً ثانيا للأساس بعد أسبوع عن «الصناجة فى العصر الحديث»، ربما عدنا إليه فى مناسبة أخرى.
الشخصية الحافظية
على أن للأستاذ العقاد مقالاً مطولاً نشره بالهلال بعدد يوليو 1963، بعنوان «الشخصية الحافظية» بمناسبة ذكرى رحيل شاعر النيل فى 21 يوليو 1932، ويشهد المقال بأن العقاد يحمل لحافظ إبراهيم من المحبة ما يوازى ما يحمله له من التقدير، وأن هذه المحبة شغلته طوال معرفته به بدراسة شخصيته دراسة العارف المحلل الذى امتزج عمق فكره مع صفاء عاطفته التى جمعته بهذه الشخصية التى ينوه بأنها كان لها مكانة ملحوظة بين أدبائنا المشهورين، وأن فى «الشخصية الحافظية» متسعًا للدرس والمراجعة يستفيد منه علم النفس، كما يستفيد تاريخ الأدب.
يحسب العقاد أن حافظا لو لم يكن شاعرًا ولا أديبا، لشغل بغرائبه الشخصية حيزًا ملحوظًا من مجتمع عصره، فقد كان يشغل المجلس الذى يحضره عن جميع حاضريه وتكاد تتعلق به الأنظار والأسماع، حتى وإن لم ينشد شعرًا أو يسترسل فى فكاهة.
عرفه العقاد ولقيه فى مناسبات كثيرة، فى المحافل العامة، وفى مجالس العظماء، وفى مكتب عمله، وفى منزله حيث يزوره مع أصحابه، أو فى منزل العقاد الذى كان يزوره حافظ على موعد وعلى غير موعد، فعرف العقاد فيه «نفسًا إنسانية» لا تتكرر جوانبها وأطوارها فى العصر الواحد، ولا تكررت بين أدبائنا أو أدباء الأمم الأخرى.
السماحة السهلة المتفتحة
أول ما يبادرك به الأستاذ العقاد من «الشخصية الحافظية» سماحة سهلة متفتحة، ترتفع الكلفة بين صاحبها ومن يلقاه، بلا تهيب أو تحفظ، فى أدق الأمور وأجلها، وفى العام والخاص منها. كان شأنه مع العظماء كشأنه مع العامة والمجهولين، يخاطب هؤلاء وهؤلاء على سجيته. كان يعجب بمواقف الأستاذ الإمام « محمد عبده » مع الخديو عباس الثانى، فيقول له على السجية دون أن يفقد توقيره لهذا الإمام الوقور: «أنت واد جدع!». وكان يقول للزعيم السياسى المعروف محمد محمود باشا : أتظن أنك تلبس يدك الحديدية مع ؟!. ويقول للسلطان حسين كامل «هذا الكلام كان على أيام المرحوم والدك!». ويقول للزعيم سعد زغلول على المائدة وحوله رهط من الكبراء : «أخطب لهم فى فضائل التفاح». وكان المتحدثون إليه تسرى إليهم عدواه فيخاطبونه بمثل هذا الأسلوب فى غير كلفة.
ويتساءل الأستاذ العقاد ما سر هذه السماحة فى هذه الشخصية الكبيرة؟ قد تغلب الخفة على الصغار، ولكن « الشخصية الحافظية » لم تكن بالشخصية الصغيرة، ولا كان حافظ ممن يجهلون أو يغفلون التقاليد وآداب الخطاب، ولكنه كان «شخصية» رحبة متمكنة، بلا تطاول ولا سوء طوية، وحين تحاول الجمع بينها وبين أشباهها فى خلائقها وعاداتها ترى أنها كلها ترجع لديه إلى خصلة واحدة فى طبعه، هى حضور الحس والإفراط فى الاستجابة لمؤثرات الساعة الحاضرة.
إنه «ابن ساعته» كما يقال، لا يهمه أن يجعل له «حوزة» تحيط به ولا «حيازة» يحيط بها. يؤيد هذا أن غريزة « الحيازة » كانت معدومة عند حافظ فى كل شئ ؛ فلم يكن يحتفظ بمال ولا حطام، بل ولم يكن يحتفظ بكتاب فى بيته، وكل ما اقتناه لساعته مباح لكل من يطلبه.
وكان، رحمه الله «ابن ساعته» فى أشهر صفاته وعاداته، وأشهرها صفة الفكاهة وعادة التبسط والمزاح وإرسال النكتة السريعة على البداهة.
وقد لا تصدق حين تراه منفردًا إلى نفسه، أنه الذى يملأ محيط مَنْ حوله ضحكًا وسرورًا، ويساجل ندماء الفكاهة فيغلبهم. يخيل إليك إنْ رأيته جالسا على إنفراد أنه وحيد منقطع عن الدنيا أو سجين يساق إلى حتفه، ولكن ما هى إلاَّ دقائق معدودات تنساب فيها الشكوى العارضة، حتى يختفى على الأثر هذا الحافظ العابس البائس، وتوشك أن تنسى أنه عبس فى حياته، وأنت تراه يفيض أمامك بالسمر والفكاهة والطرب.
كان حافظ فى مجالسه حاضر النكتة سريع الجواب عليها، يساجل أمراء الفكاهة فيغلبهم ويسكتهم، ولكنك تقرأ شعره ونثره فلا تجد فيهما أثرًا واضحًا لهذه الملكة الفكاهية.
ومن غرائبه فى نظر الأستاذ العقاد أنه كان مع سوء الظن بالناس، شديد العطف عليهم، قريب الانخداع لأيسر خديعة يدبرها المحتالون عليه، بينما هى لا تخفى على مثله فى حدة ذكائه وسرعة خاطره.
يسىء الظن بأصحاب الدعاوى وأصحاب السمعة الشائعة وأصحاب الغيرة المصطنعة، ولا يعييه تأويل ما يدعون، ومع ذلك قد ينخدع للمحتال الساذج ويجود له بما عنده، ويقاسمه أحيانا ما يملكه ولا يستبقى لنفسه إلاَّ الأقل، وقد يوشك أن يجود بما استبقاه.
ومع بعض طرائف المرويات التى عاصرها العقاد ويرويها، لاحظ أن صدمات الزمن تؤلمه فيسوء ظنه لساعته، ولكن شكوى الضعيف سرعان ما تشد ألمه وتؤلمه فينسى سوء ظنه وينقاد لشعوره فى وقته.. طيب النفس على حالتيه، لأنه يَنْخدع ولا يُخْدع، ويذهب مع شعور الساعة ليرحَمَ ويعذر، ولا يذهب مع هذا الشعور ليؤذى أحدًا أو ليعتذر عن واجب محمود.
فهل تملك إلاَّ أن تحب وتقدر هذه الشخصية؟ لقد أحبها العقاد وقدرها وختم بومضة صادرة من «حشاياه» أن آية العجب فى هذه الشخصية «الحافظية» أن صاحبها كان يعطى الساعة حقها وفوق حقها، ولكنه لم ينس بعد ذلك حق الخلود!
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com