بقلم: رجائى عطية
ويخيل للأستاذ العقاد ــ فيما يبدى ــ أن كثيرًا من الحسان اللائى كن يتصدين للشاعر ويشجعنه على التغزل بهن ونظم القصائد فى وصفهن، إنما كن يفعلن ذلك إرضاءً لغرورهن وتنويهًا بجمالهن وحبًّا للتحدث بأخبارهن، ولا سيما المقبلات فى الحج من بلاد غير بلاد الحجاز. فقد كان يرضيهن ولا ريب أن يرجعن إلى بلادهن بأبيات تتساير بها الركبان ويفهم منها الأتراب المنافسات أنهن ذهبن إلى الحجاز فخلبن ألباب رجاله وأطلقن ألسنة شعرائه وصرفنهم عن الغزل بحسانه، وقلّ فى الحسان من ليست تغتر بمثل هذا الغرور فى زمان عمر، وفى كل زمان.
ومن أمثلة ذلك قصة العراقية التى رواها الأصفهانى صاحب «الأغانى» حيث يقول:
«بينما عمر بن أبى ربيعة يطوف بالبيت إذ رأى امرأة من أهل العراق فأعجبه جمالها، فمشى معها حتى عرف موضعها، ثم أتاها فحادثها وناشدها وناشدته وخطبها، فقالت: إن هذا لا يصلح ها هنا. ولكن إن جئتنى إلى بلدى وخطبتنى إلى أهلى تزوجتك. فلما ارتحلوا جاء إلى صديق له من بنى سهم وقال له: إن لى إليك حاجة أريد أن تساعدنى عليها. فقال له: نعم. فأخذ بيده ولم يذكر له ما هى، ثم أتى منزله فركب نجيبًا له وأركبه نجيبًا آخر، وأخذ معه ما يصلحه وسارا لا يشك السهمى فى أنه يريد سفر يوم أو يومين، فما زال يحفد حتى لحق بالرفقة، ثم سار بسيرهم يحادث المرأة طول طريقه ويسايرها وينزل عندها إذا نزلت حتى ورد العراق. فأقام أيامًا ثم راسلها يتنجزها وعدها، فأعلمته أنها كانت متزوجة ابن عم لها وولدت منه أولادًا ثم مات وأوصى بهم وبماله إليها ما لم تتزوج، وأنها تخاف فرقة أولادها وزوال النعمة، وبعثت إليه بخمسة آلاف درهم واعتذرت، فردها عليها ورحل إلى مكة وقال فى ذلك قصيدته التى أولها:
نام صحبى ولم أنم من خيال بنا ألم
إلى آخر هذه القصيدة.
فهذه الحسناء العراقية لم ترد حبًّا ولا زواجًا ولا متعة حديث، ولكنها أرادت أن يشتهر بين الناس أنها أخرجت شاعر الغزل فى الحجاز عن وطنه ليلحق بها ويتمنى زواجها، فلم تجبه إلى مناه.
● ● ●
وشبيه بالبحث فى صدق أخباره البحث فى صدق توبته وسبب تلك التوبة، فهل تاب؟
ولِم تاب؟ أتاب إيثارًا للهدى؟ أخوفًا من السلطان؟ أيأسًا من الغواية بعد إدبار الشباب؟
أحبًّا للمال الذى وعده أخوه أن يجريه عليه إذا هو أقلع عن الغزل والتشبيب؟
لا شك أن بحث ذلك نافع فى استقصاء سيرة الشاعر وأخلاقه، ولكنه لا يلزم الأستاذ العقاد هنا فى تحليل معانيه والنفاذ إلى حقيقة غزله وأسلوب فنه ودخيلة مزاجه وطبعه.
ويروى الأستاذ العقاد قصة أخرى عن مَوْلى لعمر بن أبى ربيعة، قال فيها: كنت مع عمر وقد أسن وضعف، فخرج يومًا يمشى متوكئاً على يديه حتى مر بعجوز جالسة فقال: هذه فلانة! وكانت إلفاً له. فعدل إليها فسلم عليها، وجلس عندها وجلس يحادثها. ثم قال: هذه التى أقول فيها:
ما زال طرفى يحار إذ برزت حتى التقينا ليلاً على قدر
فأطلعت رأسها إلى البيت وقالت: يا بناتى هذا أبو الخطاب عمر بن أبى ربيعة عندى،
فإن كنتن تشتهين أن ترينه فتعالين ! فجئن إلى مضرب قد حجزن به دون بابها، فجعلن يثقبنه ويضعن أعينهن عليه يبصرن، فاستقاها عمر. فقالت له: أى الشراب أحب إليك؟ قال: الماء ! فأتى بإناء فيه ماء، فشرب ثم ملأ فمه فمجه عليهن وفى وجوههن من وراء الحاجز، فصاح الجوارى وتهاربن وجعلن يضحكن. فقالت العجوز: ويلك ! لا تدع مجونك وسفهك مع هذه السن ! فقال: تلومينى؟! فما ملكت نفسى لما سمعت من حركتهن أن فعلت ما فعلت…».
وهذا المزاج مزاج رجل لا يسلو معابثة النساء، ولا يملك أن ينأى بنفسه عن التصابى وهو شيخ.. والقصة على ذلك إن صحت فإنها خبر صادق يتفق مع المعروف عن مزاج الشيوخ المتصابين، فإذا لم تصح فإن ذلك إذ يدفع التهمة عن عمر، إلاَّ أنه لا يبطل المعروف عن تصابى الشيوخ من أشباهه.
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com