بقلم : رجائى عطية
نشأ عمر بن ابى ربيعة فى حواضر الحجاز التى كانت وسطًا بين البادية والمدينة العامرة، فلا كانت خيامًا أو بيوتًا من الخوص أو الشعر، ولا كانت صروحًا مثال دمشق ومصر والقسطنطينية.
وإنما كانت مثابة الحجاج والقوافل ومنازل يأوى إليها المغتربون إلى حين.
وأسلس أبناء القبائل الذين سكنوها ــ فيما يقول الأستاذ العقاد ــ بعد خشونة وجفاء، ولكن ودون أن ينسوا نخوة العرض ومنعة المحارم.
فلما شبب عمر بن أبى ربيعة بعائشة بنت طلحة (ابن عبيد الله) من تيم بنى مرة، كبر الأمر على فتيان القبيلة فأنذروه إن عاد إلى ذلك أصابه شر من أيديهم.
كانت شدة الدين قد لانت بعد الخلفاء الراشدين، ولكنها لم تبطل ولم تتحلل من العرف الشائع.
وكان عمر يلهو ويتغزل ولكن لا ينسى أن يعلن أنه لا يستبيح محرمًا ولا يأتى بريبة.
ولعل عائشة بنت طلحة ــ فيما يذكر الأستاذ العقاد ــ كانت مثالاً للمرأة الشريفة آنذاك.
تعطى حق الحياء والدين وتعطى معه حق النعمة والجمال، فكانت تترفع عن الريب ولكنها لا تستر وجهها عن أحد.
وإذ عاتبها زوجها مصعب بن الزبير، قالت له، وفى كلامها قبس من حجة الدين وحجة الدنيا : «إن الله وسمنى بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم فما كنت لأستره. ووالله ما فىّ وصمه يقدر أن يذكرنى بها أحد….».
وينقل الأستاذ العقاد ما قاله الأصفهانى صاحب الأغانى :
«وطالت مراودة مصعب إياها فى ذلك، وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء بنى تيم هن أشرس خلق الله وأحظى عند أزواجهن. وكانت عند الحسين بن على رضوان الله عليهما
أم إسحاق بنت طلحة، فكان يقول : «والله لربما حملت ووضعت وهى مصارمة لى لا تكلمنى!»
ويعقب الأستاذ العقاد بأن هذا مثل المرأة التى لا تنسى جمالها ولا تنسى بداوتها ولا تنسى دينها. ثم تأتى النساء دون ذلك درجات ممن وصفهن ابن أبى ربيعة فقال :
فلما تفاوضنا الحديث وأسفرت
وجوهٌ زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما عرفننى وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
وقربّن أسباب الهوى لمتيّم يقيس ذراعًا كلما قسن إصبعًا
«فهن جميعًا مزهوات بجمالهن، حريصات على أن يشهدن أثره ويسمعن حديثه، مشغولات بجده ولهوه، فى عزة تتفاوت بين الصلف وبين تقريب أسباب الهوى لمن يحسن الاقتراب ويتجنب الارتياب».
ومن الطبيعى فيما يرى الأستاذ العقاد ــ أن ينشأ الغزل فى هذه البيئة التى تغرى فيها المرأة بالغزل وتصغى إليه، وأن ينشأ الشعراء الغزليون الذين يوافقون هذه البيئة ما بين الجد والشغب، وبين اللهو تزجية الفراغ.
وقد التفت إلى حديث المرأة فى ذلك العصر كثير من الشعراء فى تلك البيئة غير عمر بن أبى ربيعة. وعلى غير طريقته ومنحاه. وكانوا على الجملة على طريقتين مختلفتين فى النزعة والسليقة وجوهر العاطفة.
إحداهما تضم الشعراء الذين اشتهروا بحب امرأة واحدة، كقيس بليلى، وعروة بعفراء، وجميل ببثينة، وكثير بعزة، وتوبة بليلى.
والأخرى تضم من تغزلوا بأكثر من امرأة واحدة، أو اشتهروا بحب النساء عامة. كعمر، والأحوص، والعرجى، وقيس الرقيات.
والفرق بعيد بين أصحاب الطريقتين.
لأن علاقة الرجل بامرأة واحدة يبقى على حبها زمنًا طويلاً أو مدى الحياة، هى حادث لا يتكرر كل يوم، ولا بد فيه من عامل الشخصية التى تفرز وتتعلق.
أما حب الغزل بالنساء عامة، فهو مزاج يلازم صاحبه ملازمة الأمزجة للطبائع.
فالرجل المغرم بحديث النساء ومجالستهن ومناوشتهن ـ هو فيما يقول الأستاذ العقاد ـ ينشد الحس ولا يقصد الشخصية، ويستطيع أن يرضى شعوره هذا دون أن يتقيد بأخلاق الوفاء وآداب العشق وخصال التضحية والصبر.
أما الرجل الذى «يفرز» بحبه امرأة واحدة دون غيرها، فإن فى نفسه عوامل أدبية وعهود أخلاقية وبواعث روحية لا موضع لها عند المغرمين بالكل.
فالطريقتان مختلفتان كل الاختلاف فى مقاييس الشعور ومقاييس الحسن أو الجنس ومقاييس الأخلاق. ولا يجمع بينهما إلاَّ تشابه الكلام فى ظاهره دون التشابه فى الباعث والاتجاه.
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com