بين بشار وعمر
كان بشار قريبًا فى منحاه من عمر بن أبى ربيعة، لأن المجالس التى كان يغشاها كانت شبيهة على نحو ما بالمجالس التى كان يألفها ابن أبى ربيعة.
غير أن مجالس بشارـ فيما يرى الأستاذ العقاد كانت أشبه بالأندية اللاهية فى عصرنا، بينما كانت مجالس ابن أبى ربيعة أقرب إلى سهرات الحريم المغلقة التى كان يتم التحلل فيها من الحجاب بعض التحلل.
فصاحبات بشار هن الجوارى والقيان والمستهترات.
وصاحبات عمر هن الحرائر اللائى يفرجن عن أنفسهن فى غفلة الأولياء والرقباء.
ووجه الشبه بين الطائفتين؛ هو حديث شاعر مشغول بالنساء جميعا، وغير مقصور على واحدة بعينها.
وهنا وجه الالتقاء بين بشار وأبن أبى ربيعة.
وهنا أيضًا وجه الافتراق بينهما، وبين كل من كثير وعروة وقيس وجميل.
ولا يغير من ذلك أن يتصادف أن يتغزل الشاعر من هؤلاء فى غير معشوقته، فلم يكن ذلك ليغير من طبيعة شعره فى المعدن والطبيعة.
وقد نسبت إلى كثير فيما يقول الأستاذ العقاد أبيات تشبه فى ظاهرها أن تكون من كلام الغزلين المكثرين. وهذه الأبيات :
تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن
عليك شجى فى الحلق حين تبين
وإن هى أعطتك الليان فإنها
لغيرك من خلانها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأى عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين
ويعقب الأستاذ العقاد بقوله:
«ومهما يكن من صدق النسبة فى هذه الأبيات أو كذبها؛ فالذى يلوح منها أن قائلها أحس شجى الحلق من تقلب المعشوقة الواحدة، وود لو ظفر بالمعشوقة التى لا تتقلب ولا تلين لغيره كما لانت له، ولا تغدر به كما تغدر بسواه، فعدل إلى التأسى وهو كاره لهذه المتعة راضِ بها على غير اختيار لو ملك الاختيار. وليس هذا مما يقوله الشعراء الغزلون المطبوعون على التردد بين مجالس النساء الكثيرات، بل لعله مما يضجرهم، ويثقل على طبائعهم أن يطالبوا بالوفاء، ويُحال بينهم وبين التقلب فى مجالس الحديث واللقاء».
وكما لا يغير ذلك من طبيعة شعر « كثير» بعامة، فإنه لا يغير من شعر ابن أبى ربيعة أنه شغف بالثريا وكانت أثيرة لديه، وأطال الغزل فيها والتودد إليها، وأجفل حين بلغه عرضًا خبر نعيها. إذا أنه لم يقتصر عليها فى غزله، وكان يتعرض كل يوم لعتابها له على مغازلة غيرها.
● ● ●
ويشير الأستاذ العقاد إلى أن هذه المقارنات ليست للموازنة بين شاعرية وشاعريه، أو بين قدرة فنية وأخرى، فمما لا شك فيه أن « كثيرًا» وإخوانه كانوا يحسنون أبوابًا من القول لا يستطيعها ابن أبى ربيعة، ولم يكن ذلك لأنهم أشعر منه أو أرجح فى الملكة الفنية.
ذلك أنه هو أيضا كان يحسن أبوابًا من القول لا يستطيعونها ولا يلمون بها، وإنما يحسن كل منهم ما يحسنه لأنه يحسه ويصدق فى التعبير عنه والدلالة عليه.
ويضيف الأستاذ العقاد أنه ليس للشعراء العشاق قصيدةً واحدة تعدل مساجلات ابن أبى ربيعة وحكاياته الغزلية.
وكذلك ليس فى ديوان ابن أبى ربيعة صرخة واحدة من أعماق قلب مصدوع، ولا نفس والهة.
وما يقال فى الفرق بين شعراء الطريقتين، يقال أيضًا فى الفرق بين قراء كل منهما.
فالذين يألفون الغزل العمرى، يفضلونه على غزل كثير وقيس وجميل، ولا يعدلون به شعرًا من غير طريقته.
وقُلْ ذلك أيضًا على عشاق الشعراء المشبوبين بواحدة، فلا يرضى قراءهم بديلاً لشعر هؤلاء العشاق.
وللناس فى عشقهم مذاهب، كما أن للشعراء فى غزلهم مذاهب.
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com