سبارتاكوس التراقي، إله مصارعى مدينة كابوا الرومانية، محرر عبيد روما سنة 73 ق.م .. لم يكن عبدا فى الأصل! كان رجلا حرا ومحاربا بتراقيا القديمة، وعبوديته حولته لمصارع محترف، يطيح بالرقاب لتسلية الرومان، حتى تمرد على دوره ونظم ثورة العبيد، التى كلفت روما سمعة دموية تاريخية، أنهتها بتصفيته مع رفاقه ليكون عبرة للآخرين.
واقعيا؛ سبارتاكوس كان من ذوى الياقات الزرقاء بالمعنى المعاصر (موظفى الأعمال اليدوية والبدنية والوسيطة)، بمعنى أوسع الوظائف المنفذة على الأرض مهما اختلفت درجتها الإدارية، طالما اتسمت بالعموم وعدم التفرد أو صناعة القرار، وبمعنى آخر كان مجرد جندي.
بخلاف ذوى الياقات البيضاء (موظفى الاستراتيجية وصناعة القرار والتخطيط والقيادة والتفرد والتأثير) المعروفين كقادة.
لم يدخل سباتاكوس التاريخ إلا لعبوديته! التى جعلته مجالدا وقائدا بحلبات المصارعة غير الجدير بها إلا المحترفون فقط! فتميز بزّيه، وأسلحته، وتدريبه، واحترافه، وحريته بالحلبة لاتخاذ قرار الحياة أو الموت! فجرائم المجالد مُجازة بالحلبة كصناعة متكاملة، هدفها التسلية بفن واحتراف، وقوامها إبقاء حياة المصارع وتسلية الغوغاء وإثراء مدرسة التدريب وإلهاء وقيادة الجمهور. كان سبارتاكوس بالحلبة نجما، قائدا، حرا، إلها، سيد قراره، ولكن أهم شيء استمرار صناعة الجرائم المشروعة.. وعبوديته!
بمعنى آخر، فعبودية سبارتاكوس خارج الحلبة بالياقة الزرقاء، حوّلها احترافه كمصارع داخل الحلبة إلى ذى ياقة بيضاء يقتل برخصة!
فهل لسبارتاكوس أحفاد بالعصر الحديث بياقات بيضاء؟
واقعيا؛ أصبحت الميديا (إنترنت/تلفاز/فضائيات/صحف/راديو) ووسائط التواصل الاجتماعي، هى حلبة مصارعى كابوا المعاصرة، وأغلب الحلول المتداولة من خلالها، للتنمية البشرية والمؤسسات الدينية والاجتماعية والسياسية، تأتى من مدمنى التكييف أو باحثى الدولار أو أصحاب اللحى المُمَسّكة أو الـ»تى شيرتات» العصرية! أغلبهم ـ وليس كلهم ـ تجاوزوا عنق زجاجة استقرارهم المالى أو بطريقهم لذلك، مما يجعل حلولهم منطلقة من بروج عاجية، الشكل فيها أهم من المضمون، لصناعة سبارتاكوس بياقة بيضاء، ونجم مؤثر أو influential.
من هنا كانت حلولهم قاصرة بطبقة معينة، يمكنها التواصل بنظرياتهم أو تحوير تنفيذها المُكلف أو المُعجّز أحيانا، ومع التوجهات العامة لأصحاب الحلول، أصبحت مُصارعات سبارتاكوس الجديد، بكثير من الأحيان، موجهة أو تستخدم منهج الإيحاء غير المباشر أو بالطريق العكسي، لتمرير رؤى معينة ظاهرها عدم الاتساق والتدرج وباطنها التخديم على التوجه العام.
أصبحت الميديا أخطر منصة بتاريخ البشرية لتشكيل الوعى الجمعى العالمى بدقائق، وبالمساهمات الحرة والفجة للعامة بالسوشيال ميديا وغير المراقب جودتها، تُبث وتتداول وتُحلل وتكثف الأخبار والفتاوى والشائعات وتطور لتوجه عالمى لتحقيق مخططات القرن 21، إلا أن طبقة المؤثرين أو influential مازالت الأخطر لقيادة القطيع العالمى بصور متباينة.
ونظرا لتحول الميديا لمسيخ واقعى بعين واحدة ورؤى متعددة، فكان حتما تحويل الوعى الجمعى العالمى لحلبة صراع بإطار ومضمون، لا يُتركان للصدف أو الهواة أو الأغبياء، فنشأ تدريجيا عهد طبقة المؤثرين أو influential أو سبارتاكوس بالياقة البيضاء، بأشكال وضوابط نجح معها استثمار كل السبارتاكوسات بتدجينهم ببروج عاجية، فرضت عليهم نظرة فوقية لمريديهم والجمهور، تضمن لهم التحول إلى (انيمانوس) أو مشرف تدريب المجالدين ذى المزايا المالية والعينية، الضامنة لولائه لصاحب مدرسة التدريب، مع بقائه ضمن المجالدين، ولكن بنظرة صاحب المدرسة وحراسة مصالحه!
لم يعد تقديم الرسائل حكرا للرؤساء والزعماء ولكن مسيخ السوشيال ميديا خلق طبقات جديدة من المؤثرين وأنصاف المؤثرين المعززين بنظرية تأثير الفراشة، لتأتى الأبراج العاجية كمصنع وملجأ آمن للمؤثرين، فإما يدخلوها بأقدامهم أو تُفصل عليهم، لنزعهم تدريجيا من الواقع أو ليدخلوا بصراع التناقض معه، المهم إدمان الأضواء وقياس حيواتهم ببقائهم داخل مربع التواصل والعائد المادى والمعنوي!
تدريجيا، تتحول الجرائم المُجازة لسبارتاكوس بالحلبة، لجرائم ذوى الياقات البيضاء العصرية، كما عرفها إدوار سزلاند بعلم الجريمة 1939، كالاحتيال والتحريض ومخططات بونزى والجرائم الإلكترونية وغسل الأموال وانتحال الشخصيات وانتهاك حقوق الملكية الفكرية، ليحكمها خبث استمرار صناعة الجرائم المشروعة.. وعبودية سبارتاكوس بياقته البيضاء!
للأسف ففكر ومنهج البرج العاجى لسبارتاكوس وانيمانوس الجديد، توغلا وتطورا ليكونا منهجا تبنته الشركات والهيئات الكبرى والحكومات، لتضمن استمرار المجالدين لإمتاع الطبقة العليا وتمرير المخططات وإطالة أمد الصناعة الأبدية، لتكون الميديا هى الكرباج المُلهب لأذن وعيون الوعى الجمعى العالمي، لحظة مروق سبارتاكوس الجديد من البرج العاجى أو مخالفة دوره أو محاولته التمرد، لإجباره للعودة لصفوف ذوى الياقات الزرقاء المهدور دمهم وذكاؤهم ووجودهم على حلبة الحياة!
كم من أبرياء مبهورين بسبارتاكوس الجديد، ويتوقون لأخذ الفرصة لينتقلوا لطبقة المؤثرين أو influential ولكن لكل توق ثمن ولكل برج هاوية! قلة نادرة فهمت اللعبة ونجحوا بالانخراط بمدرسة التدريب وأفسحوا المكان بالحلبة لسبارتاكوس جديد، تنتظره الهاوية بنهم ممتع!
صناعة سبارتاكوس بياقة بيضاء أصبحت أيقونة القرن الـ21، وستظل طبقة المؤثرين أو influential تتوسع وتزدهر، بتطور وتخفٍ وتلّون، لضمان استقرار الجرائم المُجازة لحين محاسبتهم.. حتى اليوم الذى يفهم الوعى الجمعى العالمى حقيقة الميديا وبروجها العاجية .. أو مسيخ آخر الزمان، ليعود سبارتاكوس حرا لتراقيا من جديد.
حتى ذلك الحين؛ فسبارتاكوس بياقته البيضاء يطيح بالرقاب لتسلية الغوغاء وإثراء مدرسة التدريب وإلهاء وقيادة الجمهور.
* محامى وكاتب مصرى
bakriway@gmail.com