من نافلة القول بادئ ذى بدء أن احتفال مصر السنوى لنحو سبعين عاماً بثورة يوليو.. ينسخ بالقطع وصمها بالانقلاب وإلا ما استمر طيلة هذه العقود التى بذلت خلالها مختلف الأجيال- لرفعة تاريخ البلاد- كل غال وثمين، ويكون النقد عندئذ وفى هذه الحالة موجهاً فحسب عن الكارهين والمحبطين فى حالة غيبوبة، وليست بالضرورة إلى منطلقات الثورة التى استمرت البلاد على دربها رغم طول المحن.
إن الدولة المصرية بشعبها العريق قدم التاريخ، ملكية أو جمهورية، هى التى شيدت – وليس قياداتها- مداميك نهضة مصر المعاصرة، بإنجازاتها وعثراتها، طوال قرنين ونيف من الزمان، 1804 – 2019، سواء فى المائة وخمسين عاماً الأولى من حكم الأسرة العلوية أو خلال السبعة عقود التالية إلا قليلاًَ من حكم دولة يوليو، ولتبقى مكاسب الحقبتين- رغم تباينهما- صالحة للبناء عليها وتطوير قيمها، وفى إلهام أجيال جديدة لاستكمال مشروعيهما النهضويين المتكاملين، من دون نكاية أحدهما للآخر.. على النحو الجارى الذى يهدم ولا يبنى، يفرق ولا يوحد، خاصة أن مصر الجمهورية ليست فى حالة عداء- بنيوي أو منهجي- مع مصر الملكية، إلا من ضرورات اجتماعية وطنية وجيوبوليتيكية على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، أفرزت عن قيام مصر الجمهورية- كبديل- لنظام تعددت فى سنواته الأخيرة السابقة ليوليو 1952، شواهد إفلاسه، نفسه بنفسه، (مثبتة)، بحيث ما كان يحتاج لإزاحته غير دفعة أصبع، للحيلولة دون وقوع البلاد فى براثن تنظيمات سرية، فاشية أو ظلامية، تسللت أدبياتها باطراد فى أوساط كل من الشرائح الاجتماعية للبرجوازية الصغيرة وفى داخل طبقات جماهيرية مسحوقة تفتقد التوازن النفسى والاجتماعى، لكن من الإنصاف مع ذلك عدم تسفيه النظام الملكى برمته، لما أداه للبلاد، خاصة فى عشرينيات القرن الماضى من مظاهر التقدم المتوازية مع الاستقلال الأول لمصر الذى تحصلت عليه ثورة فى 1919، تعليمية وثقافية وقضائية وعلمية متخصصة كما أنه من الإنصاف أيضاً تحجيم ظواهر جلد الذات لنكسات عابرة عن النظام الجمهورى برمته، خاصة لما أداه للبلاد من الخمسينيات، تحديث الجيش وقاعدة التصنيع والتصعيد الاجتماعى لكتلة كبيرة من الشعب المصرى، وما إلى ذلك من توجهات نهضوية فى العهد الجمهورى كما فى العهد الملكى بسيان، لم تذهب تضحيات إنجازاتهما سدى.
ولما كانت الحقبة الملكية قد مرت بمراحل متباينة متوارثة من «محمد على» إلى «فاروق»، فقد كان الأمر كذلك بالنسبة للحقبة الجمهورية عبر خمسة رؤساء، باستثناء العام 2012، توارثوا الحكم بشكل أو آخر عن نظام يوليو، ومؤسساته القائمة إلى اليوم، كانت مفعمة بتعقيدات الحرب والسلام، وأعباء التغيير الاجتماعى، ومتطلبات التنمية.. إلخ، كاد التاريخ خلالها أن يقفز تطوره عبر وثبات متدرجة، ببطء لكن بثبات، ناهيك عن تعقيدات انتزاع الاستقلال رغم أنف القوى الإمبراطورية والصهيونية بسيان، وقد كان من اللافت فى الحقبتين الملكية والجمهورية.. تعرض حكامهما فى معظمهم لنهايات شبه مأساوية، من الاغتيال إلى النفى ومن العزل إلى الخلع، من اغتيال «عباس الأول» فى يوليو 1854 إلى عزل مبارك فى فبراير 2011، وما بينهما، أشبه بمأساة أغريقية «سيزيف» إذ يتدحرج بأثقاله إلى سفح الجبل فى كل مرة يشارف الوصول إلى قمته، وليس آخراً بالمرحلة الزمنية المعاصرة.. كم هى شاقة وصعبة وشديدة الوعورة من فرط تزاحم وتضارب المطالب والتحديات سواء بالنسبة للأوضاع الداخلية أو التحركات الخارجية، كإرث ثقيل خلفته كلا الحقبتين الملكية والجمهورية.. أو سواء عن الحصار خارجياً بين حزامين، شمالى وجنوبى من جانب دول ليست أهدافها متوافقة بالضرورة مع الأولويات المصرية، ما يضاعف العبء الموكول حاليا إلى مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية، لصون السلم الاجتماعى الذى يتعرض لسلسلة من الارتدادات الاجتماعية الاقتصادية، وغيرها، وللمشاركة فى التنمية الشاملة، على غرار ما كان فى عصر كل من «محمد على» و«عبدالناصر»، إذ لا يجب لمشروعيهما أن يغيبا بغيابهما، ولئلا يتفتتا كآنية من فخار.
خلاصة القول، إذا كانت مقتضيات تأمين الثورة وبدء قيامها – كضرورة وطنية – من ناحية، وما فرضته من ناحية أخرى المتغيرات الدولية جراء نتائج الحرب العالمية الثانية على منطقة الشرق الأوسط، ومصر فى مركز دائرتها، قد أفرزتا ضمناً حالة عداء ليست غير دائمة بين دولة يوليو، وما قبلها، فإن من الواجب بعد كل هذه العقود، التوجه إلى مصالحات تاريخية بين عصور مصر المختلفة، وللبناء عليها، إذ من ليس له ماضٍ، لا مستقبل له، ومن لا يستوعب ماضيه قد يضطر ربما للعودة إلى قراءته مجدداً.