الحلول الجذرية والحلول الوسطى فى السياسة الخارجية
قلنا فى المقال الماضى إن ارتفاع كلفة الحرب مع انخفاض عائدها دفع أغلب القوى الغربية- قد تكون الولايات المتحدة فى بعض المراحل الاستثناء الهام الذى يشذّ عن القاعدة- إلى البحث عن حلول وسطى وتثمينها، أيًّا كانت، ومهما كان مضمونها، متناسين دورهذا السعى وهذه الحلول الوسطى فى تقوية ألمانيا النازية.
وهناك أمثلة أقرب إلينا.. الاتفاق النووى مع إيران.. ومهما ادّعت القوى الغربية فالاتفاق يتلخص كالآتي.. تأجيل المشروع النووى الإيرانى تأجيلًا قد يؤدى إلى وأده مقابل تمكين إيران فى الإقليم وتمويل هذا التمكين بالإفراج عن الأموال المجمدة وبالاستثمار فى إيران. والاتفاق فى نظر حلفاء أمريكا فى المنطقة سيئ جدًّا، رغم أن الدول الأوروبية لعبت دورًا أثناء المفاوضات لفرملة هرولة إدارة أوباما نحوه؛ أى أن الدول الأوروبية منعت توقيع اتفاق أسوأ..
ونلاحظ لجوء القوى الغربية إلى حجةٍ استُخدمت كثيرًا فى ملفات كثيرة.. وهى أن هذا الاتفاق شكّل دعمًا قويًّا لفريق المعتدلين فى البلد الخصم.. وهى حجة صحيحة أحيانًا، ومردودة فى أغلب الأحوال. هى تفترض أولًا أن الصراع بين المتطرفين والمعتدلين هو صراع بين قوتين لهما نفس الوزن تقريبًا.. وهذا الفرض غير صحيح فى الحالة الإيرانية، وهى تفترض أن دعم الغرب لقوة يقويها فى الداخل وهو أيضا فرض ليس صحيحًا دائمًا.. دعم الغرب قد يكون حجة تدين من يتم دعمه. ويتجاهل هذا الكلام أن المرشد الأعلى وهو محسوب على الصقور وافق على الاتفاق، وهذا لا يعنى أنه غيّر من قناعاته وأصبح معتدلًا، بل يعنى أن الاتفاق حقق مصالح إيران، كما يتصورها الصقور.
يلاحظ أننى أقبل مناقشة من سيقول إن توقيع هذا الاتفاق أخفُّ الأضرار بالنسبة لأمريكا، فمنطقه فيه قدر من الوجاهة وإن رأيته شخصيًّا كلامًا مردودًا، ولكننى لن أناقش من يقول إن الاتفاق جيد؛ فهذا كلام فساده واضح.
ولكننى أعترف بوجاهة كلام من يقول إن الحديث عن شن حرب اليوم لمنع حرب مستقبلية حديث فيه شيء من العوار، على الأقل فى بعض الأحوال. لأنه لا أحد منا يملك قراءة المستقبل، ولا أحد منا يستطيع أن يقول وهو متأكد من نفسه إن الطرف الثانى سيشن حتمًا حربًا، وأن الانتظار يقوّيه ويسمح له بشن حرب ضدّنا فى ظروفٍ أفضل له.
وأحدّد أكثر…قد أستطيع أن أقول مثلًا إن جغرافيا تركيا وآليات نظامها وشخصية الرئيس إردوجان وأيديولوجيته وسوابقه.. إن كل هذا يرفع من نسبة احتمالات لجوئه إلى العدوان وإلى حرب ستكون غالبًا حرب بالوكالة. ولكننى لا أستطيع أن أحدد إن كان سيقوم بالهجوم، السنة المقبلة أو فى بدايات العقد المقبل. ولا أستطيع أن أعرف إن كان سيتوجه إلى الشرق الأوسط أم إلى القوقاز أم إلى البلقان. وعلى المنوال نفسه ستجد خبراء يقولون إن سقوط حكمه أو حكم بوتين أمر حتمي، وحتى إن افترضنا جدلًا أنهم على حق، فمثل هذه التنبؤات لا قيمة لها فى السياسة إن لم تكن محددة. بمعني.. هناك فارق هام بين هجوم أو سقوط يحصلان سنة 2023 وبين سقوط أو هجوم يحصلان سنة 2030.
ومثل هذا الكلام ينطبق بصورة أوضح على أثيوبيا. من منا يستطيع أن يعرف بدقة إن كان مرور الوقت يقويها أم يضعفها نظرًا لسياسات حاكمها؟ ومن منا يعرف «شكل» البيئة الدولية، السنة المقبلة؛ هل ستكون فى صالحنا أم فى صالحه؟ لا أقول إنه لا يوجد أبدًا رد معقول وراجح على هذه التساؤلات، بل أقول إننا لا نستطيع أن نقول قولًا مؤكدًا.
كل ما سبق يفترض أننا مخيرون بين الحرب والحلول الوسطى، وهذا كلام تعوزه الدقة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية د.توفيق اكليمندوس