خواطر مواطن مهموم (93)

خواطر مواطن مهموم (93)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:52 ص, الأحد, 20 يونيو 21

أوروبا والمسألة اليهودية والصهيونية

فى المقالين السابقين عرضتُ لبعض فصول كتاب مارك مازوير “القارة السوداء”، وهى الفصول التى تتناول ما حدث فى أوروبا الشرقية والبلقان بين منتصف القرن التاسع عشر ونهاية الحرب العالمية الثانية، وتأثير المبدأ الذى أعلنته الثورة الفرنسية “من حق كل شعب أن يحكم نفسه بنفسه” على تصورات وبرامج وأساليب عمل الفاعلين فى هذه المناطق والشرق الأوسط. وأطلب إذْن القارئ لأعقد الصورة تدريجيًّا.

وقبل هذا أقول إن ما يدفعنى إلى دراسة تاريخ هذه المنطقة… أو على الأقل القراءة فى هذا الشأن… أمران… أولًا محاولة فهم ما تفعله دول هذه المنطقة فى إطار الاتحاد الأوروبى ورفضها منظومة قيم هذا الاتحاد الليبرالية الما بعد حداثية… وثانيًا محاولة فهم تأثير أحوال تلك المنطقة على نشأة وتطور الحركة الصهيونية وعلى تصورات الأوروبيين غير اليهود عن اليهود والعكس… علينا مثلًا ألا ننسى أن هيرتزل نمساوي؛ أى من أبناء أوروبا الشرقية. صحيح أن ما دفعه إلى صياغة المشروع الصهيونى هو ما حدث للضابط الفرنسى ألفريد دريفوس وما لحِقه من ظلم، ولكننى أزعم أن وعيه بالأساس وعى أوروبى شرقى.

وعلينا- فيما أظن- تغيير تصوراتنا عن تاريخ أوروبا فى هذا القرن، مثلًا نميل إلى تصديق أو تبنِّى روايات أوروبا الغربية عن هذا التاريخ، وهى ليست خاطئة ولكنها تروى جزءًا من الحقيقة وترويه من منظورها هى، نتبنى هذه الرواية؛ لأن أغلب النخب الثقافية المصرية تتقن الإنجليزية أو الفرنسية أو اللغتين، ونسبة من يتحدث الألمانية أو الروسية أقل بكثير، ومن ثم نقرأ كتب تاريخ فرنسية أو إنجليزية، ويلعب كون هذه الدول دولًا استعمارية دورًا هامًّا فى تقييمنا لأهميتها.

باختصارٍ نميل لا إراديًّا إلى اعتبار أن مفتاح أحداث القرن الماضى فى أوروبا يكمن فى الصراع بين المملكة المتحدة وهى الدولة المهيمنة على النظام الدولى، وألمانيا وهى الدولة التى نافستها وحاولت انتزاع الصدارة بعد أن سحقت فرنسا فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.

فى رأيى (الحالي) الصراع الحاسم الراسم لمسار القارة ليس بين ألمانيا والمملكة المتحدة، ولكنه بين ألمانيا وروسيا… وأوروبا الشرقية وكل سكانها كانوا ضحايا هذا الصراع… وعلى رأسهم وبطريقة مختلفة كمًّا وكيفًا اليهود.

أتوقف لحظة لأتناول نقطة أخلاقية سياسية تاريخية… هل شرح أصل ومسار وأسباب نجاح الحركة الصهيونية هو تبرير والتماس الأعذار لها؟ ومن ثم هل هو مرفوض؟ يلجأ غالبية المؤرخين المتناولين لظاهرة يرفضها الجمهور إلى مقولة… الشرح ليس تبريرًا وليس دفاعًا عن ظاهرة. نظريًّا، هذا التمييز بين الشرح والتبرير صحيح، ولكن التطبيق العملى يثبت أن الحد بينهما ليس دائمًا واضحًا، وأن الشرح قد يصبح تبريرًا والتماسًا للأعذار… إلخ.

مشكلتى الشخصية وهى مشكلة مهنية وسياسية ووطنية هى شعبية أشكال مختلفة من الخطاب التآمرى وسيطرتها على الرأى العام… تارة نجد من يقول إن اليهود يحكمون العالم من خلال مجلس إدارة مصدقين أكاذيب صاغها البوليس السياسى للقيصر الروسى، وتارة نقول إن إسرائيل صنيعة الاستعمار… وهذه الجملة تستحق وقفة طويلة… أولًا لأن إسرائيل صنعتها الحركة الصهيونية؛ وهى حركة أسّسها يهود أوروبيون وليس جهات حكومية أوروبية، وثانيًا لأن كلمة «استعمار» تخفى تنوع المستعمرين وأشكال السياسات الاستعمارية… يمكن القول إن الحركة الصهيونية أجادت قراءة الخريطة السياسية والفكرية وتغيراتها فى كل من أوروبا والولايات المتحدة فنجحت فى اختيار “حاميها” وفى تغييره عندما لزم الأمر… وفى ضمان وجود ظهير فكرى، والحركة الصهيونية لم تصنع أحداث أوروبا الشرقية التى دفعت عددًا كبيرًا من اليهود إلى اتخاذ قرار ترك هذه المنطقة أولًا، والهجرة إلى فلسطين ثانيًا… مع فقدان البدائل الأخرى لشروط إمكانيتها أو لبريقها.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية