Find Out More

Is your organization one of the Best Places to work in Egypt

workL

خواطر مواطن مهموم (91)

خواطر مواطن مهموم (91)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:52 ص, الأحد, 6 يونيو 21

أوروبا بين الحربين

أقوم حاليًّا بقراءة كتاب تاريخ أحدث ضجة عندما صدر سنة 1998.. عنوانه «أوروبا القارة السوداء» وكاتبه مارك مازوير؛ جامعى بريطاني، ويتناول تاريخ أوروبا فى القرن العشرين. هذا الكتاب ليس الوحيد الذى يتبحر فى الجوانب السوداء لتاريخ القارة فى النصف الأول من القرن العشرين، فى مكتبتى عدد منها أهمها الحرب الأهلية الأوروبية للألمانى أرنست نولت، وأراضى الدم للأمريكى تيموتى شنايدر.. أنصح بشدةٍ بقراءة كتابه الأخير؛ لأنه يركز على شرق أوروبا ولأن التاريخ يفسر موقف دول المنطقة من روسيا وألمانيا، ومن ثم من الولايات المتحدة.

نعود إلى مازوير. فكرته الرئيسة أن التصورات الأوروبية عن الذات… أنها قارة الديمقراطية وحقوق الإنسان والفكر الليبرالى والمجتمعات المفتوحة… هذه التصورات يدحضها التاريخ. ما حدث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية يجب ألا يدفعنا إلى نسيان ما حدث قبلها. يحب الأوروبيون أن ينسبوا ما حدث بين الحربين إلى سوء الحظ وإلى اعتباره استثناء لا يمكن القياس عليه ولا ينفى تجذر الديمقراطية فى القارة وكون هذا النظام السياسى نظامها الطبيعي.. وفقًا لتصوراتهم موسولينى أراجوز ترأّس حزبًا سلطويًّا فى دولة حديثة الميلاد، هتلر مجنون عنصرى استطاع الوصول إلى الحكم بعد أزمة اقتصادية عالمية قاسية أفقدت الملايين وظائفهم، ستالين كان شكاكًا وصل إلى مقعد زعامة حزبه وهو يعلم أنه ليس الأجدر؛ مما دفعه إلى قتل شركائه فى الحكم، وكانت أيديولوجية حزبه تفرض عليه بناء قلعة صناعية مهما كان الثمن فى دولة زراعية هى الأكثر تخلفًا فى أوروبا.

يقول الكاتب إن ما حدث لا يمكن إرجاعه إلى خصال بعض القادة ولا إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، خريطة أوروبا سنة 1914 توضح ما يلي.. لم يكن بها إلا ثلاث جمهوريات، فى حين أن أربع إمبراطوريات تقاسمت وسط وشرق أوروبا.. الألمانية والنمساوية المجرَية والروسية والعثمانية. والإمبراطوريات لم تكن تحكم بالديمقراطية، ويلاحَظ فى هذا الصدد أن مؤرخًا آخر رفض اعتبار الحرب العالمية الأولى أول الحروب الرأسمالية/ الديمقراطية، بل ذكرنا أنها فى الواقع آخر حروب دول النظام القديم (يقصد الأنظمة الملكية التى تشبه النظام الذى سقط فى فرنسا سنة 1789) الذى يعتمد على كبار ملاك الأراضى ويمكنهم…

وفجأة أصبحت الدول التى تبنّت الديمقراطية ثلاث عشرة سنة 1919.. الدول التى أخذت بهذا النظام بعد الحرب لم تعرفه قبل ذلك، والفقهاء الدستوريون الذين قاموا بتحرير الدساتير كانوا من فطاحل هذا التخصص.. إلى يومنا هذا يعتبر هانز كلسن عملاق الفن الدستوري، لكن مهارات المشرع لا تستطيع أن توجد فئات تؤمن بالديمقراطية ومستعدة للدفاع عنها، ولا تقضى على الكراهية الطائفية والإثنية.. إلخ.

الدول لم تكن لها تقاليد ديمقراطية، ولم تتمتع بوقت كافٍ لاكتسابه؛، لأن شبح الشيوعية كان يهدد أوروبا ويُرعب كل المتدينين وجمهور الريف وبعض فئات المدينة، ويُضعف اليسار.. الاستقطاب بين الاشتراكية الديمقراطية والشيوعيين أضعف الاثنين وأصابهما بالوهن، وتصارعت على السلطة القوى اليمينية المختلفة، تلك التى تمثل النظام القديم (كبار الملاك) والمتمسكة بشرعية تقليدية، والقوى الشعبوية الفاشستية التى تؤمن بأن الأمة مصدر السيادة، وأن زعيمها زعيم وضمير الأمة، وتجسِّد آليات عصر الجماهير الغفيرة، والقوى الكاثوليكية، أو المسيحية الرجعية، وثيقة الصلة بالمؤسسات الدينية، واشتركت كل هذه القوى اليمينية فى الرعب من الشيوعية وفى التوجس من الديمقراطية وفى كراهية البرلمان، البرلمان والديمقراطية- فى رأيهم- يحثّان على الفردية والأنانية والاستقطاب والدفاع عن المصالح الضيقة على حساب الصالح العام.. وفى غياب أحزاب قوية لا يستطيع البرلمان أن يعمل بكفاءة.

وهناك تطورات أخرى قوّت السلطة التنفيذية، وعلى العموم كان واضحًا منذ مطلع الثلاثينات أن الديمقراطية ماتت أو تحتضر فى كل الدول حديثة العهد بها.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية