فى اجتماعات مجلس قيادة الثورة وفى مجالس الضباط، كان الحاضرون يتلذذون بإحراج السادات، كانوا يعلمون أنه لا يحب الإدلاء برأيه، ولذلك كانوا يلحّون عليه بالأسئلة المُحرجة التى يفترض الرد عليها قدرًا وافرًا من الاطلاع.. وكان يهرب بتقليد نفسه قائلًا أنا مبلبل، أنا مبلبل، بصوته المعروف.
واليوم أجد نفسه فى موقفه، مرضت مرضًا منعنى من إنهاء ما بدأته، وأجد نفسى كاتبًا مقالًا عبارة عن رءوس موضوعات، كلها شيقة، وبعضها هام، ولكننى لست ملمًّا بأحدها.
أول رأس موضوع هو أن العالم يشاهد صراعًا على القمة فريدًا فى نوعه. فريدًا فى نوعه لأن المتنافسين ثلاثة، فريدًا فى نوعه لأن أضعفهم على المدى الطويل- روسيا- أشدهم خطرًا على المدى القصير، فريدًا فى نوعه لأن المتنافسين لا ينتمون لنفس الثقافة على الإطلاق (الصين عاجزة عن فهم أبناء الديانات الإبراهيمية)، فريدًا فى نوعه لأن اقتصادات المتنافسين متداخلة متكاملة متنافسة ومندمجة، أى أنهم لا يستطيعون اللجوء إلى حرب اقتصادية دون أن يعانوا جدًّا.
فريدًا فى نوعه لأن هناك منافسًا- روسيا- يبدو عدميّ التوجه، يريد أن يضعف خصومه لا أن يبنى نفسه، وهناك منافس آخر فقَد «عادة التفكير الإستراتيجي»؛ وهو الولايات المتحدة. أنا مقتنع بهذا تمامًا وسررتُ جدًّا عندما عثرت على مقالة أمريكية هامة تذهب إلى ما ذهبت إليه. أصحاب القرار الأمريكى يخلطون ببن أشياء عدة ولا يجيدون تحديد الأهداف ولا الأولويات ولا الوسائل.
من ناحية أخرى بدأت قراءة مذكرات ستروب تالبوت.. صديق الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون وأحد مستشاريه فى الشئون الروسية، والكتاب وثيقة هامة لقراءة حقبة التسعينيات من القرن الماضي، لكن ما أثار تفكيرى موضوع قد يكون تافهًا، وقد لا يكون.
مذكرات تالبوت ثانى أو ثالث كتاب أقرؤه لأحد معاونى كلينتون. قرأت أيضًا مذكرات مارتن إنديك؛ لأهميتها فيما يتعلق بعملية السلام فى المنطقة، وكتابًا لوزير دفاعه إن لم تخنِّى الذاكرة. وفى كل الأحوال لا يمكننى إلا الإعجاب بشخصية الرئيس بيل كلينتون، فهو قمة فى النشاط الدائم، تفكيره مرتب، والأهم من هذا أو ذاك فهو يريد دائمًا «المساعدة». له قدرٌ من التعاطف مع المظلوم. هذه الخصال لا تعنى بالضرورة أن سياساته كانت حكيمة- شخصيًّا لا أراها كذلك- لكنها خصال أحبُّها فى أى شخص، وكان من الواضح أنه كان ماهرًا فى تذكر الأسماء والوقائع وفى صناعة الصداقات.
أذكِّر القارئ بأن كلينتون أكثر رئيس غربى استقبل ياسر عرفات، وكان المسئولون الغربيون مهما تعمّق تعاطفهم مع القضية الفلسطينية متوجسين من لقاء الزعيم الفلسطيني، لحرصه الدائم على شرح الخلفية التاريخية للصراع بكثير من التفصيل.
وإلى يومنا هذا لم أقرأ سطرًا عن الرئيسيْن أوباما وترامب دفعنى إلى حسن الظن بهم؛ لا كأشخاص ولا كزعماء سياسيين. حالة ترامب واضحة.. شخصية غير مستقرة نرجسية تجيد دغدغة المشاعر السلبية لدى الجموع، لديه القليل من الأفكار التى قد تكون سليمة فى بعض الأحوال (أهمية ألا يكون سلوكك متوقعًا/ ضرورة الضغط على ألمانيا/ إيران لن تقتنع بالتى هى أحسن).. لكن تخبطه منعه من استغلالها استغلالًا جيدًا، وفى المقابل أغلب أفكاره خارج نطاق الاقتصاد سطحية، وقدراته الإدارية محدودة.
أما أوباما فإننى لا أفهم الهالة التى تحيط به. أقرُّ طبعًا بأنه لم يكن فاسدًا ولا متحرشًا، ولكنه على المستوى الشخصى بارد لا أصدقاء له، كل الرؤساء لهم نظير أو أكثر بنوا معه علاقة صداقة لم تمنع الصدام عندما تعلَّق الأمر بالدفاع عن المصالح العليا للوطن. أوباما الوحيد الذى لا صديق له. أما قدراته التحليلية فهى قدرات محامٍ وليست قدرات سياسى أو إستراتيجي. لم أر فيه إلا محاضرًا فى الأخلاق.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية