الزعيم والقائد… خواطر
بدايةً أعتذر عن مواصلة الحديث عن قراءة طارق البشرى للتاريخ المصري، سأعود إليها ولكنها تتطلب بحثًا جادًّا وإعادة قراءة كتبه ولم يسعفنى الوقت ولا مهامّي، هذا الأسبوع. ولم أستطع متابعة الأخبار فقد كنت منهمكًا فى تتبع خطوات ودراسة سيرة أحد عمالقة السياسة فى القرن الحالي، وفى محاولة فك شفرات كلامه والإمساك بمفاتيح شخصيته. وهذا دفعنى إلى التفكير الشارد فى مقومات القيادة وخصائص الزعامة، وفى طبيعة السياسة وعلاقتها بأنشطة أخرى، منها الاقتصاد والجريمة المنظمة، وعلاقتها بالدين ومقدسات الشعوب وذاكرتهم.
هذه الموضوعات قُتلت بحثًا، وقتلتها بحثًا، ولا أظن أن هناك جديدًا يغير فهمنا تغييرًا جذريًّا يمكن أن يقال… ولا تنظيرًا يفتح لنا آفاقًا كانت غائبة، وفى الوقت نفسه أتعجب من سرعة تغيير وجهة نظري، فهى تتغير مع كل شخصية أقرأ لها أو عنها.
لن أعود إلى مقولات علم الاجتماع… إن الصور النمطية للزعيم تتغير مع تغير الثقافات ومع تطور ذاكرة الشعوب وخبراتها التاريخية، ومع اختلاف نوعية الآمال ومضمون المخيلات، ولن أشكك فيما يقال إن علاقة الزعيم بالجماهير هى علاقة اجتماعية يمكن تحليلها بأدوات علم الاجتماع، وأن الزعامة خطاب أو أفعال توحد بطريقة أو أخرى تحول جموع الأفراد إلى شعب واحد يشترك الكل فى نفس الجراح والمشاعر والطلبات والآمال، وتزرع فى كل مستمع سكرة القوة، نعم أقول هذا مع زعيمي، ونعم قوته هى قوتى وقوة كل الحضور الهادر؛ لأن كلًّا منا صار صوت وممثل ملايين من الناس أصبحوا للحظات واحدًا.
هل نستطيع أن نقول إن الشعوب تحمل رموزًا وأفكارًا متناقضة وثقافات مختلفة، وأن الزعيم يحمل فى طياته كل هذه التناقضات ويجيد إدارتها… عبد الناصر كان مثقفًا وعسكريًّا منضبطًا، ومسلمًا محافظًا وعلمانى التفكير، ابن طبقات وسطى يجيد فهم الفقراء، مفكرًا إستراتيجيًّا عميقًا ينزلق أحيانًا إلى سياسات كلها مخاطرة، وفيًّا للجذور مصممًا على السير فى طريق الحداثة، حساباته معقدة وصارمة، ولغته بسيطة مبهجة مضحكة. لكن ضحكاته تخاطب الجروح المصرية والعقد. السادات كان شديد الإعجاب بالسعودية وبالنمسا، ويريد نظامًا يجمع بين الوهابية والاشتراكية الديمقراطية، ولكن الإعجاب بالنمسا لم يكن له ظهير اجتماعي… ديجول لم يكن ممزقًا بين التراثين الملكى والجمهوري، أدمجهما فى صيغة صالحت لفترة بين الثقافات السياسية الفرنسية.
هل للزعيم علاقة خاصة بشيء غير مادى يسمى ضمير الأمة، الذى قد يكون فى كل مكان أو قد يكون فى منطقة ما. قد يكون عابرًا لطبقات الشعب، وقد تكون طبقة أقرب له. هل صلابة الصعيدى وإخلاصه المفترض للتقاليد هما جوهر الأمة؟ هل حى شبرا هو ضميرها؟ السادات كان كثير الكلام عن أخلاق القرية بهذا المعني، ولكنه كان يقصد غالبًا أن طلبة ومثقفى المدينة ليسوا الأمة ولا يمثلونها. فرنسا لم تنتخب رئيسًا لا جذور له فى المحافظات إلا مرة واحدة- سنة 2007… هل يشير هذا إلى تقديس لجذور- بل قل أسلوب حياة- ما زالت حاضرة وقوية، أم حنين إلى أسلوب حياة آخذًا فى الزوال؟
وإذا كان واضحًا أن الشعوب تفضل زعيمًا يمثل ضمير الأمة، فإنه ليس واضحًا أن الشعوب تحب حاكمًا يشبهها إن كان هذا الشبه يبرز عيوبه وضحالة فكره؟ صديق فوجئ بسائق تاكسى يقول عن الرئيس مرسى أيام حكمه «مرسى رجل طيب وسلوكه فى الأكل مثل سلوكنا وهذا مرفوض إن كان رئيسًا… إضافة إلى ذلك كِبيره إجراء مصالحة بين زوجين… السياسة لعبة صعبة لا يجيدها ولا أجيدها».
ارتكب هولاند خطأ كبيرًا عندما وصف نفسه بالرئيس العادي/ الطبيعي… قصد بهذا أنه ليس مجنونًا وليس شخصية استثنائية بل عادية. ولم يكن هذا مطلوبًا منه.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية