عن الكوفيد ودروسه
بين حين والآخر أخصص وقتًا لقراءة ما يُكتب فى الصحف والمواقع الفرنسية والبريطانية والأمريكية عن الكوفيد ، وهذا لا يكسبني أية شرعية فى تناول هذا الملف. فأنا لست طبيبًا ولا خبير أوبئة ولا متخصصًا فى السياسات الصحية.
ولكن الكوفيد شأن عام من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يصل المختصون إلى اتفاق؛ لا حول الواجب عمله ولا حول الأولويات، الأطباء لا يتفقون فيما بينهم، ولا السياسيون، ولا يتفق الفريقان فى مواجهة بعض. ولهذا الوضع أسباب كثيرة لا تتلخص فى الأهواء الشخصية ولا فى ضرورات الموازنة بين الصحة العامة والعملية الإنتاجية والاقتصاد، ولا فى خوف السياسيين من «العقاب الانتخابى».
لن أقترح روشتة فهذا فوق طاقتى، ولكننى سأعلق على بعض ما قرأته. هناك مثلًا من يقول إن الموضوع كان مفاجأة تامة، وأنه يجب إعادة النظر فى عمليات «التوقع». وردّي… شخصيًّا سمعت مرات فى العقد الماضى علماء أجلاء يقولون ويكررون أننا مقبلون على كارثة صحية، فالخليط «عولمة متسارعة»/ سرعة الانتقال إلى كل أنحاء المعمورة/ استمرار أنماط غير صحية من التفاعل بين الإنسان والحيوان فى دول عديدة أهمها الصين…هذا الخليط سيؤدى إلى كوارث إن آجلًا أم عاجلًا… سمعتها فى مجالس خاصة قبل أن يطرح الملياردير بيل جيتس القضية على الرأي العام.
لماذا لم يكن أحد جاهزًا؟ أولًا لأن السياسيين يتعاملون يوميًّا مع مشكلات وتهديدات ومخاطر وكوارث «حالة» وواقعة… ولا وقت لديهم ولا مال ولا حافز فى التفكير فى مخاطر محتملة لم تحدث بعدُ ولا يوجد دليل على أنها على وشك الوقوع.
وثانيًا يلعب الماضي القريب دوره…. عندما ظهر فيروس فى أواخر العقد الأول من القرن، اشترت وزارة الصحة الفرنسية وغيرها مئات الملايين من الأمصال تكلفتها تقدر بالمليارات… ولم يصل الفيروس إلى أوروبا، وانهالت الانتقادات على المسئولين… بتبديد المال العام والانصياع الأعمى وراء العلماء… إلخ.
هذا لا يعني أن السياسات المتبعة قبل الجائحة كانت كلها إما موفقة أم مبررة… دول كثيرة أغلقت مستشفيات فى الأرياف لدواعي الاقتصاد.
وهناك من لم يتعلم الدرس… وجّه البرلمان البريطاني، هذا الأسبوع، انتقاداتٍ لاذعة لحكومة بوريس جونسون؛ لأنها تبنّت برنامجًا صحيًّا لمتابعة الحالات كلف 23 مليار إسترليني، حقق بعض النتائج الهامة، ولكنه لم يفلح فى إيقاف الجائحة، ومن ثم اضطرت الحكومة مرتين إلى فرض حظر جديد… لم ينتبه البرلمان إلى أن مواجهة فيروس مجهول تقتضي إنفاقًا يبدو بعضه- بعد التعلم من الممارسة والتجربة- غير ضروري وغير فعال.
الموضوع لا يتعلق فقط بتقييم ما تم، فهو يخص أيضًا التحضير للمستقبل، الحظر جاء لأن عدد الأَسِرّة والممرضين والأطباء فى المستشفيات لم يكن كافيًا لاستيعاب كل الحالات، مما أجبر الدولة على منع التواصل والنشاط الاقتصادى والاجتماعى لضمان وقف انتشار الفيروس، واتضح بسرعة أن هذا الحل كارثة اقتصادية، ما العمل؟ إن أرادت الدول تفادي هذا فى المستقبل فإن الحل فيما يبدو هو التوسع فى إنشاء المستشفيات وتكوين الكوادر… ويبقى سؤال…لو تم القضاء على هذا الفيروس ولو مضت عشر سنوات قبل ظهور فيروس جديد… هل ستتحمل الدول الإنفاق على منشآت طبية وعلى ممرضات وأطباء يبدو أنهم لا يعملون كثيرًا؟
يردّ الخبراء قائلين إن الحل سياسة توازن بين المطلوب فى الأوقات العادية، والمطلوب عند التعامل مع الجوائح، ومن الواضح أن هذا الكلام فض مجالس، وغير محدد.
نقطة أخرة أُثيرت بين الحين والآخر على مضض رغم أهميتها، التعامل مع الجائحة اقتضى تغليب مصالح المُسنّين- وأنا منهم- على مصالح الشباب. الحياة الاجتماعية والدراسة والتعامل مع الآخرين ليست ترفًا. والعثور على وظيفة السنوات المقبلة ليس ترفًا.
نتابع الأسبوع المقبل
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية