عن السياسة الروسية الحالية
حاولنا فى المقالات الماضية أن نبين شرعية الغضب الروسي، وجذوره، وأسبابه، ونستطيع أن نضيف الكثير. ولكن شرعية الغضب لا تعنى أن التصورات والتصرفات الحالية والمشروعات المستقبلية التى تتبناها القيادة الروسية سليمة وغير معيبة من الناحية الأخلاقية، ومفيدة، أو على الأقل غير مكلفة لروسيا من الناحية السياسية.
من الناحية الأخلاقية، نقطة الضعف الرئيسية فى المواقف الروسية هى رفضها الفعلى للاعتراف بحق الشعوب والدول المجاورة لها فى تقرير توجهات سياساتهم الداخلية والخارجية، ترى روسيا أن واجب هذه الدول هو مراعاة المصالح والأهواء الروسية، ورفض أى توجه مُوالٍ أو منحاز للغرب. وتعاقب روسيا أية محاولة للخروج من بيت الطاعة عقابًا قاسيًا.
تأمل نتائج هذه السياسة، نستطيع أن نقول إن روسيا خسرت ود جورجيا وأوكرانيا والشيشان وجمهوريات البلطيق، وهى فى السبيل إلى خسارة ود أرمينيا والبيلاروس، رغم تمتعها السابق برصيد هائل من المشاعر الطيبة. أتصور أن النخبة الحاكمة فى موسكو تعلم ذلك جيدًا، وأنها سترفض مثل هذا الكلام قائلة إن المهم ليس كسب الود أو الاحتفاظ به، المهم هو الحفاظ على مصالح الدولة الكبرى وتخويف الشعوب الصغيرة لتظل مطيعة.
أميل مع غيرى إلى الاعتقاد بأن ثمن التصرفات الظالمة وغير الأخلاقية غالٍ على المدى الطويل، ولا سيما إن خالفت القانون الدولي، وأن للسمعة الطيبة والمصداقية والتمسك بالأخلاق عائدًا، وإن كان من الصعب قياسه. ولكن التجربة التاريخية لا تسمح بالفصل بين موقفى هذا والموقف المضاد. فى أحوال كثيرة، الظلم الفادح كان خيارًا مُجزيًا.
لهذا السبب سأقوم بالتمييز بين نوعين من الدول المجاورة لروسيا. دول تعاديها تاريخيًّا وتخاف منها وتتوجس. ودول كانت تود روسيا وترتبط بها بعدد كبير من الروابط والعلاقات. لو قال الرئيس بوتين مثلًا… أملك الكثير ولكننى لا أستطيع تغيير التاريخ وما حدث قبل رئاستي. ومهما عملت ومهما أبديت من حسن نوايا ستظل بولندا أو دول البلطيق (مثلًا) تخشانى وتعادينى وتفضل التحالف مع الولايات المتحدة، ومن ثم لا خيار أمامى سوى الدفاع الخشن عن مصالح بلادي… لو قالها بوتين سأجد صعوبات فى دحض منطقه.
ولكنه أفسد نهائيًّا علاقات روسيا مع أوكرانيا، وهو فى طريقه إلى إفساد العلاقات مع أرمينيا والبيلاروس، وفى هذه الأحوال من حق الخبراء والشعب الروسى أن يطرحوا سؤالًا… ألم تكن هناك بدائل تسمح ببناء مستقبل مشترك، أو على الأقل بالدفاع عن مصالح روسيا دون خسارة صداقة تلك الشعوب؟ هل تبرر المكاسب التى تحققت، هذه الخسارة…
ولكن طرح السؤال هذا معناه أننا نرفض المقولتين التاليتين معًا… من لا يملك القوة لا يملك حق الكلام، وأحكام القانون الدولى وروحه لا أهمية ولا وزن لها. ولسنا متأكدين من موقف الدول العظمى من تلك المقولتين. يبدو لى أحيانًاـ وقد أكون ظالمًا- أن بوتين يرى أن ولاية المتغلب هى سنة الحياة فى داخل الدول وفى النظام الدولي، وأنه يدافع عن وجهة نظره مؤيدًا كلامه بأمثلة لسلوك مُشين غربي.
وقد يكون تفكيره أكثر تعقيدًا، قد يرى أن الجغرافيا فرضت على الدول المجاورة لإحدى الدول العظمى قبول ضرورة الخضوع لهيمنة تلك الدول، أما باقى دول العالم فيجرى التنافس عليها بأدوات القوة الخشنة والقوة الناعمة… علمًا بأن القوة الناعمة لروسيا ضعيفة نسبيًّا.
وإذا كان من الممكن تبرير سلوك روسيا مع دول جوارها بالمصالح واعتبارات الهيبة، فإنه من الصعب شرح بعض التصرفات الروسية مع دول الغرب دون ذكر عامل الغل أو الرغبة فى الانتقام. التدخل الفج فى الانتخابات يبدو كأنه رسالة… قادرون على محاكاتكم، والبادى أظلم. من المؤكد أن الغل ليس العامل الوحيد ولكنه مهم.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية