الخيار شمشوم والمأزق الروسى
أترك مؤقتًا قضية تقييم المؤرخين والمثقفين لرجال الحكم فى مصر لأعطى قدرًا من الوقت لروسيا وللرئيس بوتين، وهما يخوضان معركة شرسة ضد الغرب تشكل غالبًا أكبر تهديد للسلام العالمي، وهى معركة تثير الاستغراب والحسرة. أفهم أسبابها ولكننى مرعوب من ثمنها على الطرفين. كان الأفضل أن يسعيا إلى اتفاقٍ يسمح لكلّ منهما بالتفرغ لمصلحة شعوبهم وللخطر الصينى الصاعد الهادئ.
هناك من يتكلم عن لعنة الجغرافيا… كيسنجر مثلًا… يقول ما معناه إن روسيا دولة بالغة الاتساع، ونسبيًّا غير مسكونة. والأمر سيتدهور نظرًا للتراجع السكاني. الحدود التى تحتاج إلى حماية طويلة جدًّا. لا توجد موانع طبيعية تحمى روسيا أو تمنع تقدمها. وهى دولة قارّية تبحث منذ قرون عن منافذ بحرية، وتتقدم شرقًا وغربًا وجنوبًا. وأحيانًا تضطر إلى التوقف لأن قوةً ما منعتها من التقدم، وعندئذ تغضب وتتخيل وجود مؤامرات.
وما حدث فى نهاية القرن العشرين أسوأ من التوقف. اضطرت إلى التراجع وخسرت قدرًا كبيرًا من الأراضي، ولم يتعاطف معها أحد؛ لأن تراجعها كان يعنى انهيار النظام الشيوعى المكروه.
أتوقف قليلًا لأضيف نقطتين… فى أربعينيات القرن 19 قال المفكر الفرنسى توكفيل إن شعبين على طرفى النقيض، أحدهما يقدس الحرية، والآخر يعبد العبودية (الأدق أنه يقدس الحكم القوي)، الاثنان يضمان أراضى بشراهة، وإن آجلًا أو عاجلًا سيتصادمان… وعندئذ سيصاب باقى العالم بالرعب. كان يقصد طبعًا الشعبين الأمريكى والروسي. ولفهم هذه العبارة، علينا أن نتذكر أن الولايات المتحدة عند نشأتها كانت تجمعًا لعدد محدود من الولايات. وتدريجيًّا ضمت ولايات أخرى، ووصلت إلى المحيط الهادي.
والنقطة الثانية هى التشديد على الفوارق بين روسيا ومصر. مصر دولة أمة لها بين الحين والآخر أحلام إمبراطورية، روسيا إمبراطورية. ليست دولة تملك إمبراطورية، بل هى إمبراطورية. مصر لا تزعزع استقرار إقليمها ولا استقرار النظام الدولي. ومصر على عكس روسيا تحترم إرادة الشعوب المجاورة لا تريد إخضاعهم بل إقناعهم بالعمل المشترك.
نعود إلى جذور المواجهة التى نشاهدها اليوم. إلقاء اللوم على لعنة الجغرافيا التى تجبر روسيا على التمدد أو على طبيعة روسية عدوانية، فيه قدر من التبسيط المُخلّ.
يمكن القول إن الغرب لا يتعلم من التاريخ، وإن كان قريبًا. أقولها، وعلى بالى سابقة هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى (وليس الثانية). ألمانيا دخلت الحرب العالمية الأولى وهى القوة رقم 2 أو 3 فى العالم، وانتهت مهزومة دون أن تخسر معركة واحدة خسارة حاسمة، ودون أن يتواجد جندى أجنبى واحد على أرضها. بالعكس انتصرت على الجبهة الشرقية وسحقت روسيا. وعُوملت بعد الهزيمة معاملة دولة درجة ثانية أو ثالثة. تخيل رد فعل شعبها الذى تحمل ما تحمله ووجد نفسه مهزومًا دون أن يكون محتلًّا ودون أن يفهم ما حدث. وفرضت عليه عقوبات قاسية جدًّا لم يفهمها- من وجهة النظر الألمانية كان المسئول عن اندلاع الحرب روسيا عندما أيدت صربيا ضد النمسا. وهو رأيٌ له وجاهة.
الشيء نفسه حدث مع الاتحاد السوفييتي/ روسيا. قبل الانهيار كانت قوة عظمى. لم تخسر معركة حاسمة. لم يدخلها جندى أجنبى واحد. وفجأة خسرت عددًا مهولًا من الأراضى وعُوملت معاملة دولة متوسطة أو أقل. ولم يتذكر أحد أنها لم تلجأ إلى القوة الغاشمة عندما كان هذا ممكنًا. ويمكن القول، إضافة إلى هذا كله، ودون تجاوز كبير، إن النخبة التى تحكم روسيا هى النخبة نفسها التى كانت تحكم قبل الانهيار، أى أن انهيار روسيا جُرحٌ شخصي.
التعامل مع هذا الوضع كان يتطلب حصافة وحنكة الرئيس بوش الأب، ولكنه خسر انتخابات 1992.
(يتبع)
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية