كتابة التاريخ… شمس بدران
شاهدت فيلمًا وثائقيًّا عن واقع مدينة فرنسية أيام احتلال النازيين لها، وفيها إشارات تفصيلية إلى طبيب ألمانى حوّل العشرات من اليهود والغجر إلى فئران تجارب. عشرات من الرجال والنساء أمضوا سنوات من عمرهم أو آخر سنوات عمرهم بالنسبة لبعضهم، فى معامل تتم فيها تجربة غازات سامة وأسلحة كيماوية وأشياء من هذا القبيل. وعثر بعد تحرير المدينة على ست وثمانين جثة فى قبو الفيلا التى سكن فيها. ضحايا لقوا حتفهم أثناء تجربة معملية.
وفى الفيلم نرى امرأة مُسنة هى بنت هذا الطبيب. كانت طفلة أيام الحرب. عاشت عمرها فى حالة ذهول وعاجزة عن الفهم. والدها كان أبًا مثاليًّا، متواجدًا باستمرار ورقيقًا وعطوفًا وراقيًا ومثقفًا من طراز رفيع… ومع أولاده وحرَمه وزملائه طيب القلب. ولكن الأدلة كلها وشهادات من عاش من ضحاياه تثبت أنه من أقذر مجرمى الحرب النازيين ونازى مؤمن بـ»نظريات» زعيمه اللاإنسانية البغيضة. لا أجد كلمات لوصفها.
وقالت السيدة إنها سألت أطباء نفسيين وصديقات لها… سؤالين. كيف يمكن لشخص أن يكون صاحب شخصيتين متناقضتين… وهل من حقها أن تقدم شهادتها حول والدها فى حياته الشخصية بعيدًا عن المعامل… أم فى هذا إهانة لضحاياه. وقيل لها: هذا من حقكِ، ما دمتِ لا تنكرين وجود الوجه الآخر.. وأضيف أنا: هذا من واجبكِ.
هذا من واجبها تجاه الأخلاق والتاريخ. من السهل أن نتجنب القضايا الأخلاقية الصعبة بادعاء أن الشر له ناسه، وأن لا خير يرجى من أحدهم، وأن باقى البشرية معصوم من الانزلاق إلى أسفل الحضيض. وبالمناسبة، هذا الطبيب ليس حالة استثنائية. قام مؤرخ بكتابة دراسة هائلة عنوانها «رجال عاديون» درس فيها شخصيات ومسارات ضباط وجنود كتيبة نازية للقتل. كانت مكلفة بقتل اليهود والغجر والشيوعيين وغيرهم فى شرق أوروبا فى المناطق التى استولى عليها الجيش الألماني. الجيش يستولى على مدينة أو قرية، ثم يتقدم لضم مزيد من الأراضى ويأتون بعده مباشرة يمارسون مهمتهم. أمضوا سنوات الحرب يرتكبون مجازر، ولكنهم فى حياتهم قبل الحرب وأثناءها بعيدًا عن الجبهة… كانوا رجالًا طيبين، أو على الأقل عاديين.
لا أقارن شمس بدران بهم. لا أظن أنه قتل وعذب بنفسه. ولا أريد أن أبرر أى تعذيب أو أى جريمة بحجة أن ما حدث فى عدد من الدول المتحضرة أسوأ بكثير مما يحدث عندنا. وطبعًا لا أقول إن الخير والشر سيان وأن محاسبة من ارتكب جريمة لا تجوز، ولا أقول إن شيوع ارتكاب بعض الجرائم يقلل من بشاعتها.
ما أقوله هو أن محكمة التاريخ ومحكمة السياسة مختلفتان عن المحكمة الجنائية وعن المحكمة الأخلاقية، وأن العمل أمام كل هذه المحاكم معقد، وله منطقه. ونحن نخلط بينها ونبسط من عملها. وكل منا يريد أن يتصور أنه معصوم من ارتكاب المعاصى والشر. والقوى المعادية لتجربة ناصر تتصور أن شيطنة رموزها وتسويد سجلها تمامًا هما السبيل المضمون لمحاكمتها. فى حين أننى أرى أن التشديد على كفاءة ووطنية وشجاعة رموزها وفاعليها وأخلاقهم إستراتيجية أذكى لأعداء ناصر- ولست منهم. لو كنت مكانهم لقلت… فى مثل هذا النظام، اضطر ناس طيبون إلى فعل كيت وكيت من الكبائر.
وأيًّا كان الأمر٬ وسأعود إليه فى مقالات لاحق، فإن شمس بدران كان ضابطًا كفئًا، متخصصًا فى الشئون الأمنية، وكانت يده نظيفة، أعرف أن هناك من يشكك فى هذا لأنه حاول بيع شرائط لحفلات أقامها عبد الوهاب فى منزله- منزل شمس، ولا يرى هؤلاء أن اضطرار شمس إلى هذا دليل على أنه لم يسرق مالًا ولم يحقق ثروة أيام مجده فى السلطة، وشمس ليس مسئولًا عن النكسة.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية