عن مسئولية الباحث والخبير
أعود إلى خواطرى حول مسئولية الباحث والخبير من خلال تفكيرى فى حالة كبير عرابى الجهاديين فى الأكاديمية الغربية، وأعتذر إن كان عرضى غير منظم٬ فلم أشكل رأيا نهائيا قبل الخوض فى هذه القضية٬ وقررت نزول الساحة آملًا أن تساعدنى، بل أن تجبرنى مقتضيات التحرير على حسم المسائل أو على الأقل على توضيحها.
يقال إن الصحفى لا يمكن أن يكون موضوعيًا، فله شأنه شأن غيره، انحياز ولكن من واجبه أن يكون أمينًا، أى عليه ألا يخفى معلومة أو واقعة من شأنها إثبات خطأ وجهة نظره وألا يقلل من شأنها ومن أهميتها، ويمكن تطبيق هذا الكلام على الباحث… ومن ثم يمكن اتهام عرابى الجهاديين بتعمده التغاضى عن عنف الجهاديين٬ أو التقليل من شأنه٬ أو تبريره٬ لاجئًا إلى حجج مفادها أن الضحية تنتمى إلى نظام أو جماعة مذنبة٬ أو أن الجرائم ضرورة مؤسفة لتحقيق المشروع الجميل. وطبعًا يثير هذا الكلام قضايا من نوع… هل المشروع جميل وهل يمكن تحقيقه وهل يستحق هذا الثمن؟ وعلى العموم أبشع حجة هى تلك التى تعذر الجريمة باللجوء إلى إدانة الضحية والتشنيع عليها٬ ويمكن القول إن اللجوء الكثيف إليها كاشف للمستوى الفكرى والأخلاقى للقائل بها، إن كان من العلماء والخبراء. التشنيع موجود فى دنيا السياسة، ولكن على الخبير أو العالم أن يترفع عنه.
ولا يكتفى العراب بالتشنيع على الضحية٬ بل يتطاول ويتهم من يدافع عنها أو من يقول إنه لا شيء يبرر الجرائم بشتى التهم الأخلاقية والسياسية. يقول: فلان شخص غير محترم وعلان عميل أنظمة قمعية، وزيد يكره الإسلام، وعبيد رجعي. وبصفة عامة يلجأ هو ومن على شاكلته إلى الترهيب باتهام المعارض فى أخلاقه وفى كفاءته. كل من لا يوافقه على رأيه ضعيف فى علم الاجتماع واعتمد على أقاويل ولم يقم بدراسة علمية جادة…
العراب يلجأ أحيانًا إلى حجج أكثر تعقيدًا وتثير قضايا علمية ومنهجية حقيقية. تراه مثلًا يدافع عن سلسلة من الجرائم قائلا أن الجهاديين تصوروا فعلًا أن فلانًا مرتد، أو أن علانا سيحمل السلاح ضدهم…، إلخ. طبعًا هو لا يتساءل هل لهذا التصور ما يبرره، أم هو ضرب من الجنون ومن التشكك المرضي، وأتصور أنه سيرد « فى هذه الثقافة فى هذه البيئة هذا التصور مبرر، وإن بدا لنا غير منطقي». وهى حجة قد تكون حقيقية فى أحوال كثيرة٬ ولكن اللجوء إليها بطريقة مقنعة يفترض أنك ملم بالثقافة والبيئة التى تتذرع بها٬ وفى حالة العراب هذا الشرط غير متوافر٬ فمعلوماته عن الثقافة العربية أو التراث الإسلامى وعن الفقه وعن الدين الشعبى وعن تصورات المسلمين، سطحية على أحسن الفروض.
نعود إلى حجة «اعتمد على أقاويل» لأنها تستحق مناقشة. لن نكتفى برد التهمة… العراب يعتمد أساسًا على أقاويل بعض الجهاديين وبعض المثقفين المتحالفين معهم. أولًا نطرح السؤال… هل يمكن القيام بدراسة علمية تحترم كل معايير العلمية فى أى مجتمع من المجتمعات، وخاصة فى منطقتنا؟ بعد ما يقرب من أربعين عاماً فى المجال العلمى أرد مطمئنا… الدراسات العلمية الجادة ليست الأصل، بل هى أقلية معتبرة. مناقشة القضية تتطلب خوضا متعمقا فى فلسفة المعرفة وفى أصول المنهج، ولن أزعج القارئ به. أكتفى هنا بالقول إن العلمية هدف بعيد المنال فى المجتمعات التى تتمتع بقاعدة متينة من المعلومات الإحصائية ومن دراسات استطلاع الرأي٬ قاعدة شاملة ولها عمق تاريخى يسمح برصد التطورات. والوضع أصعب فى المجتمعات التى لا تتوافر فيها مثل هذه القاعدة. وفيما يخص التأسلم والجهادية فإن الوضع أكثر صعوبة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية