خواطر مواطن مهموم (59)

خواطر مواطن مهموم (59)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:48 ص, الأحد, 18 أكتوبر 20

بين العقل والعواطف

نواصل تفكيرنا فى دور العواطف فى السياسة وفى القرار السياسى. ونشير أولاً إلى أن العلاقة بين العواطف والعقل لا تختزل فى التفاعل، وفى مسألة التعارض والتعاون بينهما… إذ تلعب الأيديولوجيا والثقافة السياسية والمدركات الفردية والجماعية دوراً فى “ تنظيم” هذه العلاقة.

وهناك فلاسفة مثل أفلاطون رأوا أن لكل منهم مجاله يكون فيه فعالا مع تغليب العقل الذى يحكم العلاقات بينهم. بيد أن هذا الكلام يتكلم عن المفروض أو عن المثاليات المرغوب فيها لا عن الواقع.

وهناك أخرون يرون أن العلاقة بينهما صراعية، وأن تغليب العواطف يؤدى إلى التهور وإلى الفتنة ويؤجج الخلافات ويعمقها ويدفع الفاعلين إلى اتخاذ قرارات خاطئة، بينما العقل يضبط إدارة الخلاف والحوار والمجادلة بالتى هى أحسن، ويغلب المنطق ويسمح باستجلاء الحقيقة أو على الأقل الحل الأمثل، باختصار يرون أن العواطف أمارة بالسوء.

ولجمال عبد الناصر مقاربة مهمة طرحها فى كتابه فلسفة الثورة فى فقرات لم تدرس بما فيه الكفاية. ويرى أن العواطف توحد، وأن العقل يفرق ويثير الفتنة، فالمصريون كلهم يتفقون مثلاً على ضرورة إخراج البريطانيين من مصر. أغلبهم مستعد لتبنى مطالب راديكالية تحقق الوحدة الوطنية. ولكن هناك مشكلة… أن العواطف والتهييج ورفض “التفريط” لا يحققون تقدماً ملموساً، فالإنجاز يتطلب الواقعية وتقييم موازين القوى وقراءتها قراءة صحيحة وترتيب الأولويات والتفكير فى التنازلات التى يمكن تقديمها، وتلك التى ترفض رفضاً باتاً والمقارنة بين الخيارات، أى الإنجاز يتطلب إعمال العقل، وهنا سيختلف الكل، وسيتقدم كل مشارك بطرح ويبدأ التراشق والجدل الحاد. باختصار الشعبية ووحدة الصف تتحققان بتنظيم مظاهرات تطالب بالاستقلال التام أو الموت الزؤام… ولكن التوصل إلى تقدم ملموس على الأرض يقتضى إعمال العقل يضبط آليات التسخين والتهدئة ويفاضل بين السيناريوهات وهنا تبدأ الخلافات الجسيمة

وعلى أهمية وتفرد طرح عبد الناصر، فإنه (الطرح) ظل أسير الرؤية التقليدية التى تتوجس من العواطف وترى أن تأثيرها دائما سلبى، معوق للتفكير مانع لتحليل سليم الواقع، وأرى شخصيا أن دورها ليس دائما سلبيا، وقد أعود إلى هذا لاحقا داعما حديثى بأمثلة. أكتفى الآن بالقول إننى أقر أن العواطف أقل مرونة من العقل، وأن قدرتها على رفض الحقائق وعلى رفض تغيير وجهتها قدرة حقَّا مذهلة.

المشكلة تكمن فى فشل الرهان على العقل. من عظم من شأنه من الخاصة والعامة آمن أن العقل يستطيع التوصل إلى الحقيقة لو أتيح له الوقت. واليوم أصبح من النادر أن نجد متخصصا فى فلسفة المعرفة أو العلوم مقتنعا بقدرات العقل على تحقيق المطلوب منه لا سيما فى العلوم الإنسانية والاجتماعية. الأصل أن الخبير والعالم مهما علا شأنه وعظمت موهبته وتأصلت ثقافته عاجز عن التنبؤ بما سيحدث وبسلوكيات الفاعلين. نعم هناك أوضاع يمكنك التنبؤ فيها بما سيحدث، لأن الخيارات المتاحة وحسابات المكسب والخسارة واضحة وسهلة الفهم ولكن مثل هذه الأوضاع هى الاستثناء وليست القاعدة. ما أقوله عن عجز العقل صحيح حتى لو الوقت المتاح لا نهائى والمعلومات كلها موجودة ومفهومة ودقيقة. وهذا الفرض أصلاً لا يحدث إلا نادراً فى الحياة العملية، لا سيما فى الأوضاع الصراعية يتحرك الفاعلون على ساحة ضبابية.

باختصار هناك أوضاع يستطيع العقل فيها الإدلاء برأى حاسم لا يقبل الجدل، ولكنها ليست الأصل، وعندما يعجز العقل عن تقديم رأى شافٍ واضح تحتل العواطف والمدركات موقع الريادة، وتحسم القرار بناء على ميولها. هذا القائد حريص، وذاك يعلى من شأن الكرامة، وثالث مقامر بطبعه… إلخ.

الخلاصة… مؤقتا… دور العواطف الفردية والجماعية ليس دائما سلبيا، ورغم نواقصه يفضل البدء بالاحتكام إلى العقل.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية