خواطر مواطن مهموم «58»

خواطر مواطن مهموم «58»
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:25 ص, الأحد, 11 أكتوبر 20

السياسى بين العقل والعاطفة

صلات قديمة وعلاقات اقتصادية وثقافية وثيقة تربط ألمانيا بكل من تركيا وروسيا، ويشترك كل من الرئيسين التركى والروسى فى ميلهما القوى إلى الخشونة البالغة فى العلاقات الدولية، وفى احتقارهما لأوروبا، وفى قمعهما للمعارضة الداخلية. والمعروف أن المستشارة الألمانية ميركل لا تكّن الود لأى منهما.

قارن أيها القارئ بين ردود فعل المستشارة تجاه ممارسات كل من بوتين وإردوجان. فيما يتعلق بالأول تتخذ موقفًا صلبًا وتسمي الأشياء بمسمياتها دون أى دبلوماسية ولباقة، ولا تتردد فى فرض عقوبات وفى حث الدول الأوروبية على السير فى السبيل نفسه، ولكن الأسد يتحول إلى فأر عندما يتعلق باتخاذ موقف من سياسات تركيا، رغم كونها تستهدف اليونان وقبرص… من أعضاء الاتحاد الأوروبى. تقف حائطًا منيعًا ضد معاقبة تركيا، وتلجأ إلى لغة ناعمة… تتحدث مثلًا عن إجراءات وليس عن عقوبات.. وتدعو الأطراف إلى الحوار وتمتنع بقدر الممكن عن تحديد المخطئ.

طبعا نستطيع تفسير موقف ميركل من الرئيس التركى بعوامل موضوعية. أهمها المصالح الاقتصادية، الخوف من قيامه بإغراق شرق أوروبا وألمانيا تحت سيل من المهاجرين، الخوف من قدرته على إثارة الأقلية التركية التى تعيش فى ألمانيا ضد السلطات الألمانية، وعلى إثارة القلاقل فى الداخل الألمانى وفى البلقان.

ولكن الأهمية البالغة للعلاقات الاقتصادية مع روسيا وتعاطف الكثير من الألمان مع روسيا لم يمنعا ميركل من اتخاذ موقف بالغ الحدة من ممارسات موسكو. لا أقول إن هذا الموقف غير عقلانى، لأننا نستطيع أن نبرره بضرورة وضع حد لممارسات بوتين وتهديده لدول البلطيق وغيرها… ولكن من الواضح أن المنطق الحاكم لهذا الموقف منطق لا تأخذ به ميركل فيما يتعلق بتركيا.

هناك مئات من التفسيرات الممكنة لهذا التباين، ولكننى أميل إلى تفضيل البعد النفسى الثقافى. ميركل نشأت فى ألمانيا الشرقية أيام الحكم الشيوعى. يبدو واضحًا أن محاولة قتل المعارض نفالنى أحيت ذكريات أليمة. ويبدو واضحًا لى أن ألمانيا وميركل لا يحبان اليونان لأسباب يطول شرحها.

المراقبون يشيرون دائمًا إلى تأثير النشأة فى ألمانيا الشرقية ذات النظام الشمولى على شخصية ومدركات ميركل، فهى مثلًا كتومة، لأن الكلام يعرض للخطر، ولا تحب الجدل عندما يحدث فى المجال العام، محل الجدل عندها فى الكواليس. ميركل – إراديا أم لا شعوريا- أدخلت السياسة الألمانية فى نوع من السبات لم تخرج منه بقدر محدود إلا بعد صعود اليمين المتطرف… والمقارنة مع ضجيج وحيوية الحياة السياسة الفرنسية مذهلة… يتفنن الفرنسيون فى إثارة نقاشات بالغة الحدة فى موضوعات بعضها مهم، وبعضها الآخر تافه… ميركل تسعى عامة إلى الوصول لإجماع من خلال نقاشات ومفاوضات من وراء الكواليس، وتلجأ كثيرًا إلى تبني أفكار المعارضة – البعض سيقول سرقتها- لتجردها من أسلحتها ونقاط قوتها. وهى بطيئة فى اتخاذ القرار – وطبعًا أحكام الدستور ومبادئ الفيدرالية تدعمان هذه المقاربة للأمور.

قلت تسعى «عامة» إلى الإجماع ولم أقل تسعى دائمًا، فهناك استثناءات، بين الحين والآخر تفاجئ ميركل الألمان سياسيين وشعبًا بقرارات حاسمة ومصيرية لم تشاور فيها أحداً. منها قرار «إنهاء الاعتماد على الطاقة النووية» وقرار قبول مئات الآلاف من المهاجرين السوريين دفعة واحدة. والمشترك فى الحالتين هو الأهمية العاطفية للملف عند المستشارة. مأساة المهاجرين استفزت المسيحية المتدينة، الملف النووى استفز العالمة الملمة بقضايا البيئة.

لا أقصد من هذا العرض الإيحاء بأن تأثير العاطفة دائمًا سلبى… يحث على التسرع وعلى عدم إعمال العقل. الأمور أعقد من ذلك بكثير. ما أقصده أن العقل قد يبرر ويدعم موقفًا ونقيضه. هناك أسباب معقولة لاتخاذ موقف حازم أو نقيضه. لا يمكن جهل تأثير العاطفة والأيديولوجيا والمدركات فى الحسم.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية